ربما يكون الرئيس الأمريكي قد عمل عن غير قصد على قيام طوق من الحصانة حول “حماس” في رفح، وخفف الضغط على قادة الحركة لقبول وقف إطلاق النار، وأثار الشكوك بين الشركاء العرب.
تمر العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بمفارقة تاريخية غير مسبوقة. ففي حين أثبت الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر أنه الصديق الأكثر التزاماً لإسرائيل على الإطلاق في البيت الأبيض، إلّا أنّه قد يكون أيضاً الرئيس الذي تتفكك في عهده العلاقة “الراسخة” بين واشنطن والقدس.
وفي هذا السياق، نعرض بعض المعلومات التاريخية: على مدى تاريخ إسرائيل الذي يبلغ 76 عاماً، لم يبقَ أي رئيس أمريكي على عهده تقريباً مع الدولة اليهودية خلال فترات الحرب كما فعل بايدن. (على سبيل المثال)، اعترف هاري ترومان بإسرائيل في عام 1948 إلا أنه فرض عليها حظراً على الأسلحة. وفي عام 1957، أرغم دوايت أيزنهاور إسرائيل على الانسحاب من سيناء بأكملها مقابل تعهدات بالوصول إلى مضيق تيران ونشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهو ما تبيّن عدم جدواه في النهاية. وعشية حرب عام 1967، قال ليندون جونسون لأبا إيبان عبارته الشهيرة: “إسرائيل لن تكون وحدها إلا إذا سارت بمفردها” – وهو ما حدث.
وفي عام 1973، وقف ريتشارد نيكسون إلى جانب إسرائيل، ولكن الأمر الذي كان يهمّه حقاً هو المنافسة مع السوفييت على القوة العظمى، وما زال الجدل محتدماً حول ما إذا كان قد تم تجميد إمدادات الأسلحة في منتصف الحرب، ومن قام بذلك. وفي العقود الأخيرة، سئم كل من رونالد ريغان، وجورج دبليو بوش، وباراك أوباما من حروب إسرائيل، وطالبوها بوقف إطلاق النار في غضون أسابيع، قبل أن تحقق إسرائيل أهدافها الاستراتيجية بوقت طويل.
وعلى سبيل المقارنة، خلال الأشهر السبعة التي مضت منذ أن أشعلت “حماس” الحرب بهجومها الهمجي على المجتمعات الجنوبية في إسرائيل، بقيت الطائرات الأمريكية تحلّق دون توقف تقريباً لإعادة إمداد ترسانة إسرائيل بالأسلحة. ولكن قبل انتقاد بايدن على تصريحه الأخير حول تعليق إرسال الأسلحة – وهو ما سأفعله فيما يلي – سأذكر أنه يستحق شكر الحليف المُمتَن وإعجاب الأصدقاء الأمريكيين بالعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومن المؤكد أن بايدن ارتكب أخطاء. أولاً عندما امتنع عن التصويت على أحد قرارات مجلس الأمن الدولي في آذار/مارس، والذي لم يجعل وقف إطلاق نار مشروطاً بالإفراج عن الرهائن، ولو تم تنفيذه لشكّل ذلك انتصاراً كبيراً لـ”حماس”. ثانياً عندما أشاد بخطاب السيناتور تشاك شومر (ديمقراطي من ولاية نيويورك) الذي دعا فيه إلى قيام قيادة جديدة في إسرائيل. وبغض النظر عن الاختلافات السياسية للسيناتور الديمقراطي مع بنيامين نتنياهو، فقد أساء شومر استخدام منصبه – الذي وصف نفسه فيه على أنه أكبر مسؤول يهودي منتخب في التاريخ الأمريكي – من خلال دعوته إلى استقالة رئيس وزراء الدولة اليهودية المنتخب ديمقراطياً، وبذلك أضفى الشرعية على مواقف أكثر تطرفاً من النواب الآخرين.
وفي بعض الأحيان، تختار الإدارة الأمريكية على وجه التحديد المعارك الخاطئة لخوضها مع إسرائيل. فبدلاً من أن تواجه إدارة بايدن نتنياهو بشأن القضايا التي يعاني فيها من ضعف سياسي – مثل سبب امتناع إسرائيل عن إصدار خطة لغزة ما بعد النزاع، أو سبب رفض إسرائيل مراقبة توزيع المساعدات الغذائية في غزة، أو سبب قيام إسرائيل بمصادرة أراضٍ في الضفة الغربية الأمر الذي صرف الانتباه عن الحرب – قامت برسم خط فاصل بشأن رفح، وهي المسألة التي يتمتع فيه نتنياهو بدعم شعبي كبير.
ويبدو أن هذه الأخطاء تنجم عن مشورة سيئة صادرة عن أولئك الذين ينصحون بأن الابتعاد العلني عن إسرائيل بشأن قضية كبرى في زمن الحرب من شأنه أن يحسّن مكانة الرئيس الأمريكي بين الكتل التصويتية الحاسمة في الولايات المتحدة، وخاصة الشباب. ولكن يبدو أن بايدن يعرف في قرارة نفسه أن الابتعاد عن إسرائيل في أعقاب مسيرة من الدعم دامت جميع حياته السياسية يشكل خطأ. وتتلخص التسوية التي يقترحها في الموافقة على تدابير معينة تبدو ذكية جداً – أي ذكية للغاية إلى الحد الذي يجعلها لا ترضي أحداً.
وهكذا يمكن النظر إلى قرار الإدارة الأمريكية بالإعلان عن فرق غريب بين الأسلحة الهجومية والدفاعية – مع إنكار الأولى والموافقة على الثانية – كوسيلة لتحذير إسرائيل من مغبة القيام بغزو واسع في رفح التي تضم آخر مجموعة من الوحدات العسكرية المنظمة لـ “حماس”. ونظراً لأن الصراع برمته يشكل حرباً دفاعية اندلعت بسبب الهجوم غير المبرر الذي شنه عدوّ وصفه الرئيس الأمريكي للتو في خطابه الذي ألقاه في ذكرى «المحرقة» بأنه “مدفوع بالرغبة القديمة في محو الشعب اليهودي من على وجه الأرض”، فمن الصعب تصديق هذا النقاش.
إن واقع دعم بايدن لتطهير رفح من الإرهابيين – ولكن ليس بالطريقة التي بدا أن الإسرائيليين مستعدون للقيام بها – لن تفعل الكثير لتهدئة المنتقدين الذين يريدون منه أن يحدث تغييراً أكبر على مساره تجاه إسرائيل. ومع هذا، سيترتّب على ذلك تداعيات هائلة. فالتغيير يوفر طوقاً من الحصانة حول “حماس” في رفح، وبالتالي يخفف الضغط الذي يتعرض له قادتها لحملهم على قبول اتفاق وقف إطلاق النار، مع ما يترتب على ذلك من تأثير غير مقصود يتمثل في إطالة معاناة الرهائن، ومن بينهم خمسة أمريكيين.
وعلى نطاق أوسع، فإن قرار حجب الأسلحة عن أقرب حليف لأمريكا في الشرق الأوسط سيكون له صدى في جميع أنحاء المنطقة، مما يثير الشكوك حول عزيمة أمريكا وولائها والتزامها في أذهان الشركاء العرب الذين انضموا الشهر الماضي إلى إسرائيل في عرض مذهل للقيادة الأمريكية لإحباط هجوم إيراني غير مسبوق بالطائرات المسيرة والصواريخ. ومن الضروري القول إن القرار لن يكسب الرئيس الأمريكي إلا القليل من الأصوات المترددة (نحو الانتخابات الأمريكية) التي تثير قلق مستشاريه.
ومن وجهة نظري، فإن ذلك يعكس قراءة خاطئة أوسع نطاقاً للسياسة الداخلية الأمريكية بشأن حرب غزة. ولن تجني الإدارة الأمريكية أي فائدة سياسية من ليّ ذراع إسرائيل لحملها على اعتماد نهج أبطأ وأكثر تدريجية في تفكيك قوات “حماس” في رفح. وفي هذا السياق، كل ما يهم هو إنهاء الحرب، فعند ذلك فقط سوف تتاح لحملة بايدن الانتخابية الفرصة “لتغيير الموضوع” وإعادة تركيز انتباه الناخبين الشباب المترددين حول قضايا مثل حقوق الإجهاض أو الإعفاء من القروض الطلابية.
وتقتضي الضرورة السياسية إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن. وطريقة إنهائها أمر مهم أيضاً، فهناك مصلحة أمريكية قوية في أن تُسفر نهاية الحرب عن إلحاق هزيمة واضحة بـ”حماس”، وهي النتيجة الوحيدة التي ستفسح المجال لقيام حكومة في غزة من غير “حماس”، وتجديد العملية الدبلوماسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإذا حالف الحظ، التوصل إلى اتفاق سلام وأمن وتطبيع ناجح بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل. بعبارة سياسية فظة، إذا أدّت المطالب الأمريكية إلى تمديد العمليات القتالية الرئيسية التي تشنها إسرائيل في غزة حتى الصيف وما بعد “عيد العمال” الأمريكي، فسيواجه الرئيس بايدن مشكلة سياسية خطيرة.
ولكن على أصدقاء العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل – بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية – أن يتيقظوا بشأن جانب من غزة يعدّ أكثر أهمية من الاستيلاء على رفح، أو قتل يحيى السنوار، أو حتى هزيمة “حماس”، وهو: إذا ساد الاعتقاد، في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، بأن بايدن خسر الانتخابات بسبب دعمه لإسرائيل، فإن ذلك سيشكّل ضربة لقوة العلاقة الثنائية التي ستحتاج جيلاً كاملاً للتعافي منها.
لم يفت الأوان بعد على البيت الأبيض لكي يتراجع عن الخطأ الفادح الذي ارتكبه والمتمثل في حجب الأسلحة عن إسرائيل أثناء الحرب مع استمراره في الحفاظ على ماء الوجه. وهذا ما يجب أن يقوله بايدن: “لقد أسيء فهم الموقف الأمريكي من عملية رفح. فالهدف المشترك للولايات المتحدة وإسرائيل هو تفكيك ما تبقى من القدرة العسكرية لـ «حماس»، ومن بينها كتائب رفح. واشنطن تريد أن ترى ذلك يتحقق في أسرع وقت ممكن. ولتحقيق هذه الغاية، سأرسل كبار المستشارين العسكريين للتنسيق مع إسرائيل بشأن أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف بينما نبذل أيضاً قصارى جهدنا لحماية المدنيين. وفي المقابل، تريد «حماس» من إسرائيل أن تقتل أكبر عدد ممكن من النساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء، ولكن الولايات المتحدة ملتزمة بالعمل مع الإسرائيليين لضمان عدم حصول «حماس» على رغبتها. دعونا ننجز ذلك – الآن”.
ويمكن الرجوع عن هذا الخطأ المتعلق بغاية شخصية من خلال اعتماد نهج يرمي إلى إنهاء العمليات القتالية الرئيسية في غزة بسرعة وبنجاح وبأقل عدد ممكن من الضحايا المدنيين، وتتمتع هذه المقاربة بقيمة إضافية باعتبارها الأكثر حكمة من الناحية السياسية أيضاً. ولكن نافذة الفرصة تتضاءل، وعلى الرئيس الأمريكي التحرّك.