منذ اللحظة التي أعلنت فيها السلطات الإيرانية ما قالت إنه «الهبوط الصعب» لطائرة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، ووسائل الإعلام والتواصل تضخ كماً هائلاً من المنشورات والتحليلات والقراءات والتشفي والترحم والتعاطف والشماتة، حيث اختلط التحليل الموضوعي بالهوى، والدعاء له بالدعاء عليه.
من جهة، طرح تحطم طائرة الرئيس، التي كانت تقل وزير الخارجية وسبعة آخرين، عدداً من التساؤلات حول تهالك أسطول طهران من المروحيات، بسبب الحصار المفروض عليها من قبل واشنطن التي اتهمها وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف بالتورط بشكل غير مباشر في مقتل رئيسي، بسبب العقوبات التي تفرضها على بلاده، الأمر الذي استهجنه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وسخر منه.
وبغض النظر عن ذلك، فإن سقوط المروحيات الإيرانية أمر معتاد، غير أن تحطم طائرة رئيس البلاد بعث سيلاً من التساؤلات حول القدرات الإيرانية في مجال الرصد والاستطلاع الجوي، حيث بدت طهران في وضع يرثى له، وهي تستنجد بالأتراك والروس والأمريكيين والاتحاد الأوروبي، وتطالبهم بالتدخل للبحث عن طائرة الرئيس التي تحطمت في منطقة جبلية مغطاة بغابات كثيفة، أثناء عودته من أذربيجان الشرقية، بعد افتتاح سد مشترك بين إيران وجمهورية أذربيجان.
كان الارتباك سيد المشهد خلال أكثر من خمس عشرة ساعة، وهي المدة التي انقضت بعد تحطم طائرة الرئيس ورفاقه إلى حين الوصول إليها، بعد أن تم اكتشاف موقع تحطمها، عبر طائرة تركية حددت موقع تحطم المروحية وسط الغابات.
كانت وسائل التواصل تعج بأسئلة كثيرة، من مثل: أين هي القدرات التكنولوجية التي يسهب الإعلام الإيراني في الحديث عنها؟ كيف ظهرت إيران بهذا الشكل المذل، وهي تستجدي حتى الأمريكان للمساعدة في البحث عن رئيسهم الذي فقدوه؟ أين طائرات الاستطلاع والرصد؟ لماذا تضاربت التصريحات الإيرانية بشأن ما حدث لطائرة الرئيس؟ لماذا ساد الإرباك والغموض ذلك المشهد الذي أظهر الإيرانيين في حالة يرثى لها من انعدام القدرة والخبرة؟
وكيف لم تتوقع الأرصاد الإيرانية حالة الطقس في ذلك اليوم؟ ثم لماذا عادت طائرتا حماية الرئيس وسقطت طائرته؟ على الرغم من أن مهمة الطائرتين الأخريين هي حماية الطائرة الرئاسية؟ وماذا عن عدم إعطاء الطائرة المنكوبة إي إشارة يمكن أن تدل عليها؟ وهل تم تعطيل «نظام الإشارات» أم أن النظام المعني لم يكن موجوداً من الأساس في الطائرة، حسب تصريحات تركية؟
مهما يكن، فإن تطور صناعة الطائرات المسيّرة الإيرانية وتخلف قطاع الطائرات العسكرية الأخرى يؤشر إلى تركيز إيران على تقنيات «حروب التخريب» التي تنفع فيها الطائرات المسيّرة، وهي حروب غير تقليدية، لا تحدث دماراً مادياً هائلاً، قدر ما تهدف إلى خلق حالة من الإرباك والفوضى، ومعلوم أن الفوضى هي التكتيك الإيراني المتبع منذ سنوات، لإتاحة الفرصة أمام مشروع طهران للتوسع الإقليمي، وهو الأمر الذي يؤشر كذلك إلى سياسة «الهروب إلى الأمام» التي تنتهجها طهران، عبر تصدير مشكلاتها الداخلية للخارج من جهة، وكذا العمل على نقل المواجهات بعيداً عن حدودها، عبر سلاسل من الميليشيات الوكيلة لها في المنطقة، وهذه السياسة تعكس هشاشة وضع داخلية، في مقابل تمدد خارجي، وفقاً لأيديولوجيا النظام الإيراني في التركيز على الخارج أكثر من الداخل، على اعتبار أنه نظام لا يؤمن بالحدود الجغرافية لدولة «الولي الفقيه» حسب تصورات مؤسس النظام، الراحل الخميني.
تطور صناعة الطائرات المسيّرة الإيرانية وتخلف قطاع الطائرات العسكرية الأخرى يؤشر إلى تركيز إيران على تقنيات «حروب التخريب» غير التقليدية التي تلعب فيها الطائرات المسيّرة دوراً مهما، يناسب طموحات طهران في التوسع الإقليمي
وبعيداً عن تلك النقاط فإن موت رئيسي يعد مشكلة لخامنئي، حيث إنه من المعلوم أن رئيسي رجل خامنئي الذي ينفذ سياسات «المرشد» دون اعتراض، كما هو شأن من سبقه من الرؤساء الذين حاولوا أن تكون لهم بصمتهم الواضحة، مثل أحمدي نجاد، وإلى حد ما حسن روحاني.
وهنا ستبدو مهمة إحلال رجل بالمواصفات نفسها في منصب رئيسي مهمة صعبة، بعد أن عطل النظام ترشح مرشحين رئاسيين آخرين كانوا ينافسون رئيسي، في انتخابات حزيران/يونيو 2021، من أجل إفساح المجال أمامه للفوز، كي يحصل خامنئي على رئيس بدرجة مدير مكتب المرشد، وهي المواصفات التي كانت تنطبق على الراحل إبراهيم رئيسي.
وعلى الرغم من أن موت الرئيس في بلدان كثيرة قد يحدث فوضى إلا أنه في الحالة الإيرانية على عكس ذلك، ولا يعود الأمر إلى أن إيران دولة مؤسسات، قدر ما يرجع إلى كونها «دولة المرشد» وهذه الدولة أقرب إلى «نظام الفرد» حيث المرشد هو الأساس، وهو أعلى من الدستور، أو حسب رؤية الراحل الخميني أن المرشد هو الدستور، ولذا لن يكون هناك أي تأثير خطير لموت رئيسي على المشهد في طهران.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الطواف بجنازة رئيس البلاد على أكثر من مدينة إيرانية، حيث تم تشييع جنازته في تبريز أولاً، ثم في قم، ثم بعدها في طهران، كل ذلك يعكس رغبة النظام في «الاستثمار في الجنازة» لكسب التعاطف الشعبي الذي يشعر النظام بتراجعه بشكل ملحوظ، وهو التراجع الذي ظهر جلياً في نسبة المشاركين في انتخابات مجلسي الشورى والخبراء، في آذار/مارس الماضي، حيث تراجعت النسبة في العاصمة طهران وحدها إلى 24٪، ليسجل الاقتراع نسبة هي الأدنى في تاريخ الانتخابات منذ ثورة 1979 التي أطاحت بالشاه، الأمر الذي يعكس عزوف الناخبين عن المشاركة، بعد يأسهم من التغيير عبر الانتخابات.
وتعد هذه الحقائق أسباباً حقيقية وراء هروب النظام دائماً للخارج، واستثماره فيما يسميه «دعم الشعوب المظلومة» و«مواجهة قوى الاستكبار العالمي» وغيرها من الشعارات التي لم تجد نفعاً في استعادة الزخم الجماهيري لثورة وعدت الشعب بالكثير، ثم أوصلت أكثر من ستين في المئة منه إلى ما دون خط الفقر.
بقيت الإشارة إلى قدر كبير من الشماتة والتشفي ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي بمقتل الرئيس الإيراني، لدرجة أن مواطنين إيرانيين ظهروا يطلقون النيران ويوزعون الحلويات ابتهاجاً بمقتله؟
وعلى الرغم من أن الشماتة بالموت أمر شائن، إلا أن كماً كبيراً من منشورات الشماتة تم ضخها خلال الأيام الماضية في إيران وسوريا والعراق واليمن ولبنان والخليج العربي، وهذا مؤشر ينبغي لقادة إيران تأمله، لأن هذا القدر الكبير من الشامتين يشير إلى غضب واسع من سياسات طهران في المنطقة، وخاصة تدخلها في إذكاء الحروب الأهلية والفتن الطائفية في البلدان العربية، الأمر الذي وسّع دائرة الغضب ضد هذه السياسات، رغم محاولات طهران الاستثمار في القضية الفلسطينية للتخلص من تداعيات سياساتها الكارثية في دعم ميليشياتها في البلدان العربية، لتقويض دولها، ونشر «الفوضى الخلاقة» في المنطقة، من أجل التمكين لمشروع طهران الأيديولوجي الكبير.