حاجة منطقتنا إلى خفض التوترات والبحث عن الحلول

حاجة منطقتنا إلى خفض التوترات والبحث عن الحلول

تعاني منطقتنا منذ نحو عقد ونصف من صراعات تناحرية داخلية بين سلطات حاكمة بالاستبداد، وبدعم إقليمي ودولي من جهة، وبين المحكومين الذين كانوا على مدى عقود طوال ضحايا استبداد وفساد تلك السلطات، وتدخلاتها المستمرة في تفاصيل الواقع المعاشي للجماعات والأفراد في المجتمعات التي حكمتها بناء على عقود مع القوى الدولية المؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي من جهة ثانية.
وقد أدت تلك الصراعات التي كانت في سياق موجات الربيع العربي الأول الذي عرفته تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا. ثم كانت موجات الربيع العربي الثاني في السودان والعراق ولبنان؛ وكان من الواضح أن القوى الإقليمية والدولية، وبالتفاهم مع الأجهزة الاستخباراتية لتلك الدول قد تمكنت بمختلف الأساليب. منها الميليشيات الوافدة، وتسويق فزاعة الإرهاب المصطنع؛ بل الإسهام في صناعته، وفتح الأبواب أمام انتشاره، ليقدّم بفعل الآلة الإعلامية الموجهة للرأي العام، على مختلف المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، على أنه البديل الأسوأ للأنظمة السيئة التي تريد الشعوب التحرر من ظلمها وفسادها.
وبعد فشل المعالجات الهشة لأزمات تستوجب حلولاً جادة، وصلت مجتمعات المنطقة إلى ذروة الضعف والانقسام والتيه. وتحوّلت الدول إلى مجرد كيانات شكلية لا تمتلك من مقومات السيادة سوى الاسم، والاعترافات الشكلية من الهيئات والمؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية؛ وهي اعترافات لا تخفف من معانة الناس، ولا تضع حداً لمآسيهم؛ كل ما هنالك هو أنها تفتح الأبواب أمام سلطات الأمر الواقع للاستمرار والتمادي في استبدادها وفسادها.
فمجتمعات العراق وسوريا ولبنان واليمن، إلى جانب مجتمعات السودان وليبيا وتونس بدولها وحكوماتها تعيش اليوم واقعاً بائساً لا يوحي بأي نهوض مستقبلي، بل ينذر بالمزيد من التباينات والصراعات البينية على السلطة. وما يضفي المزيد من القتامة على الواقع الذي تعيشه المجتمعات المعنية يتمثّل في نزعة الاستقواء بالآخر جيوشاً وميليشيات، للتَمَكِّن من التحكّم برقاب الناس في الوطن المفروض، والاستمرار في قيادة سلطة الأمر الواقع، سلطة الغصب والمافيات.
ومن الواضح أن تحوّل مجتمعات ودول المنطقة إلى حطام قد فتح شهية القوى الإقليمية التي تسعى من جانبها إلى استغلال الأوضاع، والتمدد في الدول التي وجدت فيها، استناداً إلى الحنين الأمبراطوري، باستمرارها جزءاً من مجالها الحيوي الذي حرمتها منه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى؛ ويشار هنا بصورة خاصة إلى بريطانيا وفرنسا؛ ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي غدت بعد الحرب العالمية الثانية القوة الغربية الأكبر، مع الحفاظ على فاعلية الدورين البريطاني والفرنسي. هذا إلى جانب تنامي الدور الروسي تحت غطاء الاتحاد السوفيتي، لا سيما في «بؤر ثورية» عدة على المستوى العالمي، استفادت من ظروف الحرب الباردة، ولم تستسلم لما كان سيفرض عليها أمريكياً، ومن أبرز هذه البؤر: فيتنام وكمبوديا وكوبا؛ وعدد من دول حركة عدم الانحياز.
فاليوم نلاحظ تنافساً واضحاً بين تركيا وإيران في العراق، كما في سوريا، وقد جاءت التصريحات المتباينة الخاصة بأسبقية من اكتشف موقع حطام طائرة الرئيس الإيراني الراحل ومرافقيه الذين قتلوا جميعا نتيجة الحادث اللافت، لتؤكد مسألة التنافس الإقليمي بين الدولتين، ويشمل هذا التنافس تكنولوجيا الأسلحة والامتداد الجغرافي، والتغلغل ضمن المجتمعات المحيطة وحتى البعيدة. ويُشار في هذا السياق إلى التغلغل الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن وربما في السودان ودول أخرى قريباً؛ وكذلك التغلغل التركي في سوريا والعراق وليبيا؛ ويحصل كل هذا في أجواء انكماش واضح في الموقف العربي؛ بينما معظم الدول مشغولة بصورة عامة بقضاياها الداخلية، وهي تعمل بشتى السبل من أجل الحفاظ على توازناتها البينية لقطع الطرق أمام الانفجارات المجتمعية والسياسية الداخلية المحتملة.

حل الدولتين المعترف به دولياً

أما إسرائيل، فقد حاولت في عهد الحكومة الائتلافية السابقة أن تستفيد من خلافات المنطقة وصراعاتها في ميدان التطبيع مع عدد من الدول العربية بصورة علنية، وذلك في سعي واضح لإفراغ مشروع السلام العربي من محتواه، وجعله مجرد مشروع من المشاريع الكثيرة التي كتبت وسوقت بخصوص القضية الفلسطينية، ولكنها لم تؤد على أرض الواقع إلى أي شيء.
وقد جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة لتؤكد بصورة واضحة عدم وجود رغبة إسرائيلية، وعدم وجود الرغبة عند حكومة نتنياهو تحديداً، في اعتماد الحل المعترف به دولياً، وهو حل الدولتين، لتكون هناك دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب دولة إسرائيل.
إلى جانب المنافسة الإقليمية على جغرافيات وموارد المنطقة الكثيرة الموزعة في معظمها بين الدول المأزومة؛ هناك تنافس دولي على المنطقة يتناغم مع التسابق الحاصل بين الدول الكبرى، ويُشار هنا بصورة خاصة وأساسية إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية والصين. هذا في حين أن روسيا تحاول أن تكون هي الأخرى في الواجهة؛ غير أن حربها على أوكرانيا، وضحالة مستوى إنجازاتها في قطاع التكنولوجيا، فضلاً عن احتمالات الصراعات التي تنتظرها في نطاق الدائرة التي تعتبرها حقها المكتسب، وذلك بموجب النظرية الأوراسية، التي من الواضح أنها تشهد تراجعاً وفقداناً للشعبية بعد الحرب التي أعلنها بوتين على أوكرانيا، وهي الحرب التي أخفقت حتى الآن، بعد مرور أكثر من عامين على اندلاعها، من الوصول إلى ما كان بوتين يعتقد أنه سيبلغه على مدى اسبوع أو أسبوعين، أو شهر لا أكثر.
في مقابل ذلك كله، هناك مشروع الحزام والطريق الصيني 2015؛ ومشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي في قمة مجموعة الـ20 بنيودلهي عام 2023؛ وهما مشروعان يحاولان الاستعداد لمستقبل التنافس؛ ومن الواضح أن منطقتنا ستكون في صلب التنافس الدولي التي ستشهده مناطق عدة في العالم، لا سيما في جنوب شرق آسيا، والمناطق الشمالية في أوروبا وحتى أواسط آسيا، ومناطق في أفريقيا. بالإضافة إلى دول شبه الجزيرة الهندية، لا سيما الهند التي تحاول بكل السبل، في مقدمتها تكنولوجيات الحاسوب، وصناعة الأدوية والأقمشة والألبسة، وربما الذكاء الاصطناعي، هذا فضلا عن الطاقة النووية وامتلاكها للسلاح النووي وحجمها السكاني، إثبات ندية جادة في مواجهة جارتها اللدود: الصين.
وبناء على ذلك، ستكون منطقتنا أمام توجهين متعارضين. الأول يجنّبها قدر الإمكان تبعات صراع دولي محتمل بين القوى الكبرى حول الأسواق ومصادر الطاقة والمواقع الجيوسياسية؛ بينما الثاني يجعلها في مركز تلك الصراعات، خاصة إذا تبلورت عملية الاستقطاب بين القوى الإقليمية المندمجة في استراتيجيات هذا القطب أو ذك.
ولتجاوز مخاطر منافسات إقليمية ودولية محتملة بل مرجّحة قد تتحول إلى صراعات ساخنة، تحتاج المنطقة إلى تفاهمات إقليمية تضع حداً للمزيد من المنافسات والصراعات، واستخدام الأوراق المحلية الحساسة لجمع النقاط الإقليمية استعداداً لعقد صفقات محتملة مع القوى الدولية المذكورة، مثلما فعلت، وتفعل، إيران مع الورقة الفلسطينية.
ويمكن في هذا السياق، البناء على حدثين إقليميين هامين متفاعلين.
الحدث الأول يتمثل في الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي الحرب المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر.
بيمنا الثاني يتمثل في سقوط الطائرة التي كان يستقلها الرئيس الإيراني مع عدد من المسؤولين.
فقد فتح هذان الحدثان القنوات أمام القوى الإقليمية وحتى الدولية للتواصل، وإظهار شيء من التعاطف الرسمي العلني، وعرض امكانية تقديم المساعدة في مجال الوساطة للتوصل إلى وقف إطلاق النار بالنسبة إلى غزة؛ وتحديد موقع سقوط الطائرة وأسباب السقوط بالنسبة إلى حادث الطائرة التي كانت تقل الرئيسي.
ومن الجدير بالذكر هنا هو أن التفاهمات الإقليمية التي تأخذ مصلحة الإقليم وشعوبه بصورة عامة بعين الاعتبار، لا بد أن تضع حداً للمشاريع الامتدادية التوسعية، وهذا مؤداه التأثير ايجابيا على الصراعات الداخلية المتفاعلة راهناً ضمن دول المنطقة. وذلك عبر الحد منها، ودفع الأمور نحو التوافق على حلول تكون في مصلحة الجميع.
ومما لا شك فيه ضمن هذا السياق، هو أن التفاهم الإقليمي يحتاج إلى توسيع نطاقه ليشمل القوى المؤثرة الأخرى، خاصة تركيا ومصر، وذلك بغية وضع إسرائيل أمام الأمر الواقع، والضغط عليها للقبول بحل الدولتين. ونحن لا نذيع سراّ إذا ما ذكرنا هنا بأن هناك قنوات اتصال علنية وسرية بين إسرائيل ومعظم الدول العربية، وقد قطعت هذه الاتصالات أشواطاً كبيرة في ميادين عدة؛ وهي في انتظار الإعلان الرسمي عنها. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا لا توظف تلك الجهود ونتائج الاتصالات المعنية لصالح امكانية التوصل إلى حل واقعي مقبول للقضية الفلسطينية، حل يخدم الشعب الفلسطيني بالفعل لا أصحاب الشعارات الثوروية التي تتستّر على مشاريع الاستهلاك المحلي والتوسع الإقليمي.