إيران بعد رئيسي: أولويات المرشد تحدِّد اسم الرئيس المقبل ولا تغييرات في النهج المتشدّد

إيران بعد رئيسي: أولويات المرشد تحدِّد اسم الرئيس المقبل ولا تغييرات في النهج المتشدّد

لم يكن في مخيلة القيادة الإيرانية أنها قد تواجه امتحاناً على غفلة كالذي تمرُّ به اليوم، وهي تعيش مرحلة دقيقة وحسّاسة في تاريخها وتاريخ المنطقة. جاء مقتل رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي في حادثة تحطم المروحية التي كانت تقله ومرافقيه، من بينهم وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في منطقة جبلية وعرة فوق محافظة أذربيجان الشرقية شمال غرب البلاد في طريق العودة إلى تبريز، عقب مشاركته في افتتاح سد حدودي مشترك مع دولة أذربيجان على نهر أراس، ليخلط أوراق الترتيبات التي كان يعمل عليها بهدوء المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي لضمان استمرار نظام ولاية الفقيه لخمسين سنة مقبلة.

شكّلت حتمية الانتقال من الجيل الأول إلى الجيل الثاني والتحضير لجيل ثالث يحمل لواء تجديد عقد «الثورة ومفاهيمها» الدافع الرئيسي للنظام خلال استحقاق انتخابات رئاسة 2021 وفي الانتخابات البرلمانية 2020 و2024 ومجلس الخبراء 2024 وغيرها من الاستحقاقات على ترتيب «البيت الداخلي» بمزيد من التشدّد في إحكام قبضته على مفاصل مؤسسات الدولة على قاعدة التماهي شبة المطلق بين المرشد، ورأس الجمهورية، والحرس الثوري.
تُعتبر السلطة الحالية هي الأكثر انسجاماً في تاريخ إيران ما بعد الثورة على حكم الشاة عام 1979. كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها من المجالس ذات الصفة التقريرية هي في يد المحافظين الذين يتوزعون اليوم بين المحافظين التقليديين والمحافظين الجدد، وبين ومحافظين معتدلين ومحافظين متشددين.
موقع رئيس الجمهورية هو موقع تنفيذي أكثر مما هو تقريري في النظام الإيراني، ذلك أن رأس الهرم وصاحب الصلاحيات المطلقة هو المرشد الأعلى، إلى حد أن الاقتناع الكامل بأن لا شعرة في إيران يمكن أن تُقطع دون موافقة المرشد. كانت أهمية رئيسي تكمن في أنه كان أميناً مخلصاً لخط ولاية الفقيه والحرس الثوري، وأدى معمودية الولاء بتعامله بشدة مع معارضي النظام وخصومه حين كان رئيساً للسلطة القضائية. وهو كان من الأسماء المرشحة بقوة لخلافة المرشد. كان المتوقع أن يُعاد انتخاب رئيسي لدورة ثانية في الانتخابات الرئاسية التي كان يفترض أن تُجرى السنة المقبلة لأربع سنوات جديدة، فإذا حصل غياب مفاجئ للمرشد في غضون السنوات الخمس الآتية، يتم استعادة سيناريو 1989 حيث كان خامنئي رئيساً للبلاد وخلف آية الله الخميني بعد وفاته.
في واقع الأمر، تبدو التحديات الحقيقية كامنة في مسألة خلافة المرشد أكثر مما هي في ملء الفراغ الرئاسي. كان أحد الأسماء المنافسة لرئيسي هو مجتبى ابن المرشد نفسه، والذي يُعتبر اليوم أنه من المستفيدين بغياب رئيسي عن المشهد الإيراني.
تُحتم طبيعة النظام الإيراني أن يبقى الأشخاص ما دون موقع المرشد منفذي سياسات، مهما كانوا مهمّين أو لهم بصمات مؤثرة، فهؤلاء لا يرسمون الاستراتيجيات والسياسات التي هي عملياً بيد المرشد والدولة العميقة الإيرانية. وهذا ينطبق على رئيسي، وعلى عبد اللهيان الذي كان بدوره مرشحاً لرئاسة الجمهورية خلفاً لرئيسي. ما كان يُميّز عهد رئيسي أن الوئام كان السمة السائدة بين الحكومة والدولة العميقة، وأن السلطة التنفيذية كانت قادرة على ترجمة تفاهماتها بكثير من اليُسر بفعل غياب التباينات والخلافات التي شهدتها حكومات سابقة مع مركز صناعة القرار السياسي والأمني في البلاد.
لا شك أن عهد رئيسي شهد تحديات داخلية بفعل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية كان أشدها الحركة الاحتجاجية التي حملت شعار «امرأة، حياة، حرية» على خلفية مقتل الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في السادس عشر من أيلول/سبتمبر 2022 خلال اعتقالها من قبل «شرطة الأخلاق» بتهمة سوء ارتداء الحجاب الإلزامي، وهي الحركة التي امتدت لأشهر طويلة وهزَّت شباك النظام المرتبطة بالمرتكزات العقائدية، ورفعت شعار «الموت لخامنئي» قبل أن تنجح أدوات النظام على مختلف مستوياته في وأدها باعتقالات ومحاكمات صورية وإعدامات وإجراءات عقابية ضد النساء لجبه الخروج عن الضوابط الشرعية، وذلك بعدما مارست قدراً من سياسة «الانحناء مع العاصفة» لحين مرورها.

قراءة الأسباب

يختلف المراقبون في قراءة الأسباب التي دفعت القيادة الإيرانية العليا إلى اعتماد سياسة الانفتاح على الجوار. البعض يعزو ذلك إلى اتساع حركات الاحتجاج الداخلية ذات أبعاد عرقية وقومية ودينية ومذهبية من جهة، واشتداد العزلة على إيران من جهة ثانية، ولا سيما بعد تعثر الاتفاق النووي الإيراني والحرب الروسية على أوكرانيا والتي دعمت فيها طهران موسكو بالمسيّرات. مهما تكن الأسباب، فإن مرحلة رئيسي- عبد اللهيان سجلت توقيع اتفاق سعودي – إيراني برعاية صينية في آذار/مارس 2023. وعملت على الحوار مع الأمريكيين بحيث أدى إلى صفقة إيرانية – أمريكية في آب/أغسطس من العام نفسه لإطلاق إيران سراح 5 أمريكيين وإلغاء واشنطن تجميد نحو 6 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني، فضلاً عن إطلاق سراح مسجونين في السجون الأمريكية بتهم خرق العقوبات. وجرى في كانون الثاني/يناير 2024 بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عقد مفاوضات مع الأمريكيين في سلطنة عُمان مجدداً بشأن تخفيض التصعيد في البحر الأحمر، وخرجت أنباء قبل الحادثة مباشرة عن مفاوضات جديدة غير مباشرة في سلطنة عُمان بشأن مخاطر التصعيد في الشرق الأوسط في ظل استمرار حرب غزة. كما شهدت تلك المرحلة من عهد رئيسي توقيع اتفاقيات استراتيجية مع الصين وروسيا في إطار تعزيز سياسة التوجه شرقاً التي خطّها المرشد.
علت التساؤلات عن مستقبل السياسة الخارجية حيال الملفات المختلفة، وطبيعة التحديات الداخلية التي يمكن أن يواجهها النظام الإيراني. كلّف المرشد – التزاماً بالمادة 131 من الدستور – نائب الرئيس محمد مخبر بتولي مهام الرئاسة إلى حين إجراء انتخابات رئاسية جديدة في مهلة أقصاها 50 يوماً. وعيَّن مخبر القائم بأعمال الخارجية علي باقري كني وزيراً للخارجية خلفاً لعبد اللهيان، الذي أعلن «أن سياسات إيران الثابتة واستراتيجيتها تؤكّد مواصلة التعاون الإقليمي، من أجل تعزيز الاستقرار وخفض التوتر في المنطقة»، و«نؤمن بالحوار مع الأصدقاء وحتى الأعداء كآلية لرفع سوء الفَهم»، وأن «دعم فصائل المقاومة في المنطقة سيتواصل كونه جزءاً من استراتيجية» طهران.
يُعتبر كني أشد صلابة من عبداللهيان. ووفق عارفين، يحظى رئيس الدبلوماسية الإيرانية الجديد بغطاء الحرس الثوري ويتمتع بعلاقة لصيقة بالملف النووي كونه كان مفاوضاً منخرطاً بشكل تفصيلي في هذا الملف. كما أنه المفاوض مع الأمريكيين، ومن شأن ذلك أن يخلق بعضاً من الارتياح على الجانب الأمريكي. ما هو متوقع أن مسار العلاقة مع أمريكا سيبقى في إطار سياسة «ربط نزاع» أو «سياسة انخراط» في عملية «إدارة النيران» بين الطرفين على صعيد المنطقة، خصوصاً في الملفات من البحر الأحمر إلى غزة ولبنان بهدف عدم توسّع الصراع. سيدير كني دفة العلاقات الخارجية خلال الشهرين المقبلين بانتظار إتمام عملية انتخاب الرئيس الجديد للبلاد.
ما هو المنتظر رئاسياً؟ بدأ التداول بجملة الأسماء، وجلّها من المحافظين، فليس هناك راهناً قدرة للتيار الذي يوصف بـ«الإصلاحي» ولرجالات «الثورة الخضراء» الذين جرى تهميشهم وإقصاؤهم وضربهم ووضعهم رهن الإقامة الجبرية أو لأنصارهم على المنافسة في استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية خلفاً لرئيسي، والتي تم تحديد الثامن والعشرين من حزيران/يونيو المقبل موعداً للتحضير لإجرائها. في الأساس، من غير المتوقع أن تحظى أي شخصية من خارج دائرة المحافظين على موافقة مجلس صيانة الدستور الذي يُحدِّد أهلية المرشحين لمجمل الانتخابات الحاصلة في البلاد.
يقول أحد العارفين في المشهد الإيراني أن المرحلة الراهنة تقتضي اعتماد النهج الحالي وعدم القطع مع المسار الذي سبق أن حدده المرشد والدولة العميقة. وهذا يعني أنه لا مكان للمتشددين أو لشخصيات قد تُثير الجدل، على غرار الرئيس السابق أحمدي نجاد، أو اللغط أو الإشكالية ولو بمنطق التشدد.
في المبدأ، سيتم تهيئة الأرضية للإتيان برئيس يمثل استمراراً للرؤية المعتمدة وللنجاح في تطبيقها داخلياً وخارجياً. ثمة أسماء بدأ تداولها، ولا تحمل مفاجآت، وهي تشمل إضافة إلى الرئيس المؤقت محمد مخبر، رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني. هذه المروحة من الأسماء قابلة لأن تتوسع بحسب الضرورات التي ستحددها المرجعية. فإذا كان التركيز نحو تعزيز الوضع الداخلي والذي أظهرت الانتخابات السابقة تزايد وتيرة العزوف عن المشاركة ومحاولة العمل على توسيع سياسة «الاستيعاب»، وإذا غلب الاتجاه نحو منطق المصالحة مع الداخل، فإن لعلي لاريجاني الفرصة الأكبر. كان الرجل أبرز المفاوضين في الاتفاق النووي مع الأوروبيين في مرحلة سابقة، وتبوّأ أيضاً مراكز عدة حساسة، من بينها منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، وهو من المقرّبين إلى المرشد، وعنده خبرة واسعة في طبيعة النظام. استبعده مجلس صيانة الدستور في أكثر من استحقاق، ولم يوافق على ترشيحه للانتخابات عام 2021، فالرئيس المطلوب حينها كان رئيسي. يحظى لاريجاني اليوم بشبكة علاقات في الداخل، بحيث أصبح يُشكّل مساحة تقاطع إيجابي أكثر مما يشكله قاليباف نفسه.
ما قد يلعب عاملاً سلبياً للاريجاني اعتباره أنه ينتمي إلى عائلة متنفذة داخل النظام الإسلامي، بحيث إنهم أشقاء خمسة منخرطون بقوة في الدولة والمؤسسات، وأداروا مواقع حسّاسة، فشقيقه صادق من أبرز رجال الدين المتشددين، وشغل مناصب عدة من رئاسة السلطة القضائية إلى رئاسة مصلحة تشخيص النظام، وعضوية مجلس الخبراء، حتى أن اسم صادق يرد في قائمة الاحتمالات المرشحة لخلافة المرشد، وإن كانت حظوظه ضعيفة.
قاليباف، بدوره، يُعتبر مرشحاً جدياً وقوياً وهو خاض السباق الرئاسي مرات عدة، خسر أمام حسن روحاني حيث حل ثانياً في العام 2013، وخسر أمام أحمدي نجاد في 2005 بحلوله رابعاً، وجرى انتخابه عمدة لطهران مكان نجاد الذي أضحى رئيساً. قاليباف الذي دعم رئيسي، ويشغل رئاسة مجلس الشورى راهناً، يأتي من الحرس الثوري، وهو ممن جاهروا في مناهضتهم للسياسة التي انتهجها الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، ولا سيما في التعامل مع الاحتجاجات الطالبية.
ويرى بعض المراقبين أن مخبر قد يكون هو الآخر مفاجأة في هذا الشوط الرئاسي، ولا سيما إذا كان الاتجاه هو إتمام الرئيس الجديد لما تبقى من ولاية رئيسي وليس البدء بولاية جديدة. يبدو «بروفايل» مخبر مستفزاً للغرب، لارتباطه بملف العلاقات مع موسكو، من الاتفاقية الاستراتيجية معها إلى تزويدها بالمسيّرات، وقد سبق للاتحاد الأوروبي أن أدرج اسم مخبر ما بين 2011 و2013 على قائمة العقوبات لضلوعه في «أنشطة نووية وأنشطة للصواريخ الباليستية»، كما شغل موقع رئيس صندوق «ستاد» للاستثمار المرتبط بالمرشد، والذي وضعته الولايات المتحدة في 2013 على لائحة العقوبات.

اقتراب
الاستحقاق الانتخابي

كيف سيكون المشهد مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي؟ هل سيتحرك الشارع من أنصار الإصلاحيين في حال تمَّ استبعادهم واستمرار سياسة التهميش تجاههم؟ وهل تجد الحركة الاحتجاجية النسائية الكامدة فرصة لتحريك المياه الراكدة، أم أن واقع الداخل والخوف من ممارسة سياسة القبضة الحديدية سيجعل الشارع، المعارض والممتعض واليأس من إمكانات التغيير، يعزف من جديد عن المشاركة في الانتخابات كرسالة اعتراض وإضعاف لشرعية النظام؟
رغم التساؤلات والقلق حيال السياسة الخارجية الإيرانية المستقبلية، وحيال الملف النووي الإيراني حيث جرى قبل أسابيع التلويح بإمكانية تغيير العقيدة النووية، فإن مقتل رئيسي في هذا التوقيت يفرض تحديات بسمات داخلية: شقّها الأول يتعلق بخلافة المرشد، وشقّها الثاني بالوضع الداخلي الاقتصادي والاجتماعي، وهما الشقّان اللذان سيتحكمان بشخص وطبيعة الرئيس الجديد وتشكيلته الحكومية من ضمن تيار المحافظين حصراً.