نفوذ تركيا في القوقاز وآسيا الوسطى آخذ في الاتساع على حساب روسيا

نفوذ تركيا في القوقاز وآسيا الوسطى آخذ في الاتساع على حساب روسيا

واشنطن – كان الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا والعقوبات الغربية سبباً في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين روسيا المعزولة على نحو متزايد وتركيا “الانتهازية”.

وأصبحت روسيا شريك الاستيراد الرئيسي لتركيا، في حين ارتفعت الصادرات التركية إلى روسيا أيضًا.

وفي ظل عزلة روسيا عن الغرب، تزايدت أهمية تركيا كمشتر للغاز الروسي وإعادة تصدير السلع الأوروبية إلى السوق الروسية.

ويقول يوهان إنجفال، الباحث في مركز ستوكهولم لدراسات أوروبا الشرقية، في تقرير نشرته مجلة ناشونال أنتريست إن ذلك يشير إلى أن التعاون يتعايش مع المنافسة الجيوسياسية، حيث تتحدى تركيا بثقة متزايدة روسيا في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، وهما منطقتان تعتبرهما موسكو بقوة جزءًا من مجال نفوذها الحصري، وهو أمر ضروري لمكانتها المتصورة كدولة عظيمة.

وباستخدام أذربيجان في جنوب القوقاز كبوابة تعمل تركيا على توسيع نفوذها ليشمل الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى على الجانب الشرقي من بحر قزوين.

وبذلك فالديناميكية عبر قزوين تنشأ تحت رعاية كتلة التعاون التركية، والتي تغطي مجالات متنوعة مثل الأمن، والتجارة، والثقافة.

تركيا بديل أمني
تركيا أدخلت نفسها عسكرياً في جنوب القوقاز، وبالتالي كسرت الاحتكار العسكري الروسي في المنطقة

يمكن إرجاع النفوذ الجيوسياسي المتزايد لتركيا في منطقة بحر قزوين الأوسع إلى حرب ناغورني قرة باغ عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان.

وخلال الحرب، مكّن الدعم العسكري المكثف الذي قدمته أنقرة لأذربيجان من استعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها جمهورية ناغورني قرة باغ غير المعترف بها منذ أوائل التسعينات.

وبينما توسط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف إطلاق النار وأمر بنشر قوات حفظ السلام الروسية في منطقة الصراع، فإن هذا لم يغير حقيقة أن الحرب انتهت بانتصار حليفة تركيا، أذربيجان، وهزيمة أرمينيا، حليفة روسيا.

وعلى هذا فقد أدخلت تركيا نفسها عسكرياً في جنوب القوقاز، وبالتالي كسرت الاحتكار العسكري الروسي في المنطقة.

وبفضل هذا النجاح، شرعت تركيا وأذربيجان في تدوين تحالفهما الإستراتيجي في إعلان شوشا لعام 2021.

وتوفر هذه المعاهدة مع أحد أعضاء الناتو ( تركيا)، والتي تتضمن التزامات الدفاع المتبادل، لأذربيجان، بديلاً أمنيًا حقيقيًا.

باستخدام أذربيجان في جنوب القوقاز كبوابة تبرز تركيا كثقل موازن لروسيا عبر بحر قزوين

وفي سبتمبر 2023، حققت أذربيجان التي اكتسبت المزيد من الجرأة هدفها الذي دام ثلاثة عقود وهو السيطرة الكاملة على ناغورني قرة باغ من خلال هجوم عسكري “أمام أعين قوات حفظ السلام الروسية مباشرة”. وتحت ضغط حربها في أوكرانيا، أعلنت روسيا الانسحاب الفوري والكامل لقواتها من ناغورني قرة باغ في أبريل 2024.

وعلى الجانب الآخر من بحر قزوين أثبت أنقرة للدول التركية في آسيا الوسطى أن التعاون معها يمكن أن تكون له فوائد أمنية حقيقية.

وقد رفعت كازاخستان وأوزبكستان علاقاتهما الثنائية مع تركيا إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة، وأبرمتا اتفاقيات لتطوير التعاون العسكري في مجالات تشمل التعليم، والتدريبات العسكرية المشتركة، وجمع المعلومات الاستخبارية.

وعلاوة على ذلك، تكتسب صناعة الدفاع التركية هيمنة سريعة على سوق الطائرات دون طيار المتنامي في آسيا الوسطى، مما يؤدي إلى تآكل هيمنة موسكو باعتبارها المورد الوحيد للأسلحة في المنطقة.

ومع انشغال روسيا بأوكرانيا وإضعافها في جنوب القوقاز، فإن ضماناتها الأمنية بدأت تبدو جوفاء على نحو متزايد في نظر دول آسيا الوسطى.

ومن المثير للاهتمام أن الاشتباكات الحدودية العنيفة التي وقعت في عامي 2021 و2022 بين جيشي قيرغيزستان وطاجيكستان، وهما عضوان في التحالف العسكري الذي تقوده روسيا (منظمة معاهدة الأمن الجماعي) ولكل منهما قواعد عسكرية روسية على أراضيهما، لم تؤد إلا إلى إثارة ردود فعل فاترة من روسيا.

وبدلاً من ذلك، تدخلت تركيا لدعم جهود بناء السلام بين قيرغيزستان وطاجيكستان، مما أدّى إلى التقدم الأخير نحو التوصل إلى اتفاق حدودي.

الممر الأوسط
الاضطرابات في النقل التجاري والخدمات اللوجستية تشكل مشكلة خاصة بالنسبة إلى اقتصاد كازاخستان المعتمد على الطاقة

يساعد التعاون التركي أيضاً في إعادة تنشيط ممر التجارة والنقل عبر بحر قزوين، المعروف باسم الممر الأوسط، باعتباره طريقاً بديلاً للتجارة بين أوروبا وآسيا، متجاوزاً روسيا.

والممر الأوسط عبارة عن شبكة من الطرق والسكك الحديد والسفن، بالإضافة إلى الطرق البحرية، التي تربط أوروبا وآسيا عبر آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وتركيا.

وبالنسبة إلى دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، يعكس الممر الأوسط رؤيتها للتجارة العابرة للقارات بين الصين وأوروبا، وربطها بمبادرة البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي وكذلك مبادرة الحزام والطريق الصينية.

وفي آسيا الوسطى، البوابة الرئيسية هي كازاخستان. ومع ذلك، تخطط الصين لطريق إضافي في جنوب آسيا الوسطى من خلال بناء خط السكة الحديد بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان، والذي من المرجّح أن يكون متصلاً بالممر الأوسط.

ومن وجهة نظر أنقرة، يلوح في الأفق مشهد وجود ممر تجاري دون عوائق من إسطنبول إلى آسيا الوسطى.

وفي الوقت الحاضر، يظل ممرّ النقل الرئيسي في جنوب القوقاز هو خط السكة الحديد باكو – تبليسي – قارس، الذي يربط أذربيجان عبر جورجيا بتركيا ومن هناك إلى أوروبا.

ومع ذلك، فإن قدرة هذا الطريق غير كافية للتعامل مع التدفقات التجارية المتنامية عبر بحر قزوين.

صناعة الدفاع التركية تكتسب هيمنة سريعة على سوق الطائرات دون طيار المتنامي في آسيا الوسطى

وفي هذا السياق، التزمت تركيا وأذربيجان والدول التركية الأربع في آسيا الوسطى بالترويج المشترك لممر زانجيزور المتنازع عليه، وهو ممر نقل مقترح بين الأجزاء الغربية من أذربيجان عبر أرمينيا إلى جيب ناخيتشيفان الأذري ثم إلى تركيا.

ويفترض هذا الممر التوصل إلى تسوية سلمية بين أرمينيا وأذربيجان. والبديل المحتمل، إذا كان محل نزاع بنفس القدر، لتجاوز أرمينيا هو ممر آراس عبر مقاطعة أذربيجان الشرقية في إيران.

ووسط الطلب المتزايد على طرق النقل غير الروسية، حدثت موجة من الأنشطة عبر قزوين بهدف تعزيز كفاءة الممر الأوسط.

وقد اتفقت أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وتركيا على خارطة طريق لتطوير الممر حتى عام 2027.

وتطمح هذه الدول إلى زيادة قدرة الممر إلى 10 ملايين طن من البضائع من القدرة الحالية التي تبلغ حوالي 2 مليون طن.

ولكي يحدث ذلك، يتعين على الدول الواقعة على طول الممر الأوسط معالجة العديد من القيود التي تحد من جاذبية الطريق، مثل إجراءات النقل والتجارة المرهقة، والاختناقات في النقاط الحدودية والموانئ البحرية، فضلاً عن عدم كفاية قدرة أسطول الحاويات والسفن على التعامل مع كميات كبيرة من البضائع.

مع انشغال روسيا بأوكرانيا وإضعافها في جنوب القوقاز، فإن ضماناتها الأمنية بدأت تبدو جوفاء على نحو متزايد في نظر دول آسيا الوسطى

وحدثت خطوة في هذا الاتجاه في أواخر يناير عندما أعلن مسؤولون في الاتحاد الأوروبي أن المستثمرين الأوروبيين والدوليين سوف يلتزمون باستثمار عشرة مليارات يورو في برنامج تنمية الممر الأوسط.

وتشكل الاضطرابات في النقل التجاري والخدمات اللوجستية مشكلة خاصة بالنسبة إلى اقتصاد كازاخستان المعتمد على الطاقة. ويمر نحو 80 في المئة من صادراتها النفطية عبر الأراضي الروسية في طريقها إلى الأسواق الغربية.

وفي عام 2022، أوقفت روسيا هذا التدفق، مما دفع كازاخستان إلى توسيع التعاون مع أذربيجان لإعادة توجيه إمدادات الطاقة إلى أوروبا عبر بحر قزوين.

وعلى نحو مماثل، كثفت تركمانستان، التي تتمتع باحتياطيات هائلة من الغاز الطبيعي، المناقشات مع أذربيجان، وتركيا، والمفوضية الأوروبية بشأن تطوير خط الأنابيب عبر قزوين إلى أوروبا، وهو المشروع الذي قد يتطلب استثمارات كبيرة.

وبالنسبة إلى دول آسيا الوسطى الغنية بالموارد، فإن موقع تركيا يجعلها حاسمة كمركز للغاز والنفط، فضلاً عن كونها مفتاحًا للوصول إلى أسواق الطاقة الغربية.

وحدة العالم التركي
موقع تركيا يجعلها حاسمة كمركز للغاز والنفط، فضلاً عن كونها مفتاحًا للوصول إلى أسواق الطاقة الغربية

مثلها كمثل روسيا، تعمل تركيا على الترويج لصيغتها متعددة الأطراف – منظمة الدول التركية – التي تتحول من منصة للحوار إلى منظمة تعمل على تعزيز التعاون الشامل في كافة جوانب الحياة.

وقد تبنت الدول الأعضاء ــ تركيا، وأذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان ــ رؤية عالمية تركية طموحة لعام 2040. ويتلخص الهدف في تحويل المنظمة إلى معادل ناطقة باللغة التركية للاتحاد الأوروبي، ومنح حرية حركة السلع ورؤوس الأموال والخدمات والتكنولوجيات والأفراد بين الدول الأعضاء.

ويجري الآن إنشاء بنك استثماري تركي، وقد انضمت تركمانستان المحايدة بشكل دائم، والتي تتجنّب عادة التحالفات متعددة الأطراف، إلى المجموعة بصفة مراقب.

وتتصور منظمة الدول التركية ثروة من المشاريع التي تهدف إلى تعزيز التضامن والوحدة التركية. وتقوم المنظمة الدولية للثقافة التركية، TURKSOY، بتنفيذ مشاريع ثقافية وعلمية مشتركة داخل الدول التي تشكل الكتلة التركية. واقترح الرئيس التركي رجب أردوغان أبجدية تركية مشتركة.

الثقافة الروسية بدأت تفقد دورها المهيمن في المنطقة، مع ظهور جيل كبير ممّا بعد الاتحاد السوفييتي ليس لديه أيّ خبرة شخصية عن الاتحاد السوفييتي

وفي نهاية المطاف، يمثل مشروع القوة الناعمة هذا منافسًا لفكرة موسكو عن روسكي مير، وهي عالم روسي يتكون من دول شقيقة تتقاسم القيم والأعراف الروسية ويربطها معًا الوجود المستمر للغة الروسية بالإضافة إلى الماضي السوفييتي المشترك.

ومع ذلك، تشهد أذربيجان ودول آسيا الوسطى تغيرًا مجتمعيًا وديموغرافيًا سريعًا يؤثر على تكوين الهوية، إذ أن أكثر من 70 في المئة من سكان آسيا الوسطى هم تحت سن الأربعين.

وبدأت الثقافة الروسية تفقد دورها المهيمن في المنطقة، مع ظهور جيل كبير ممّا بعد الاتحاد السوفييتي ليس لديه أيّ خبرة شخصية عن الاتحاد السوفييتي.

الآثار المترتبة على السياسة الغربية
لم تترك العواقب التي لا يمكن التنبؤ بها والتي ترتبت على الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا لدول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى أيّ خيار آخر سوى محاولة تنويع علاقاتها الدبلوماسية والبحث عن طرق بديلة للأسواق الدولية.

وتستجيب تركيا للطلب المتزايد على الشراكات البديلة. ومن خلال تحقيق تقدم في مجالات الدفاع والطاقة والثقافة – وهي المجالات التي كانت محور نفوذ موسكو – تبرز تركيا كثقل موازن لروسيا عبر بحر قزوين.

العرب