سوف نطرح سؤالاً كبيراً حول مستقبل مجموعتين من العالم؛ لو سافرنا عبر الزمن حتى العام 2046، أو بعد عقدين. فأيهما سيكون اقتصادياً أكبر وأهم: مجموعة البريكس (BRICS)، أم مجموعة السبع الكبرى (G-7)؟
التنبؤات الاقتصادية تقول، وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي، إن معدل النمو السنوي المتوقع للهند للعام الحالي 2024 سيصل إلى 6.3%، بينما ستنمو الصين بمعدل 4.6%، وإذا حافظت أرقام النمو على حالها لمدة عقدين من الزمان، فإن الدول العشر المكونة لبريكس سوف تتفوق على مجموعة السبع الكبرى (G-6) والمكونة من الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وكندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والتي تتفوق في ناتجها السنوي البالغ 40 تريليون دولار حسب إحصاءات نهاية العام 2023 على إنتاج مجموعة البريكس المكونة من الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والسعودية وإيران ومصر والإمارات وإثيوبيا بنحو 15 تريليون دولار. ولكن فارق معدل النمو السنوي لمصلحة (البريكس) سيمكنها خلال عقدين من الزمان، أو في العام 2046 من أن تتفوق.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه فوراً علينا ونحن سائرون في هذا التحليل: وما أدراك أن هاتين المجموعتين سوف تستمران كما هما عليه الآن من حيث الظروف، والعضوية، والنمو الاقتصادي؟
إن العشرين عاماً القادمة ستواجه كثيراً من التقلبات غير المنتظرة التي قد تبدل توزيع الثروات والدخول فيها بشكل يغير معدلات النمو، والصادرات وأسعار السلع والخدمات واحتمالات الحرب والسلام والكوارث الطبيعية والمفاجآت التكنولوجية، ما يجعل كل الثوابت التي تبنى عليها فرضيات النمو قابلة للتحول أو التغيير بأشكال تؤثر تأثيراً عميقاً على معدلات النمو في الدول الأعضاء في المجموعتين.وبحسب الأخبار التي سمعتها مباشرة من الصحافي البريطاني المخضرم ديفيد هيرست، فإن البرازيل مَثلاً كانت تعارض في اجتماع قمة البريكس السادس عشر الذي عقد في جنوب أفريقيا فكرة الإسراع في توسيع المجموعة حتى لا يفسح المجال أمام الخصوم لكي يستغلوا الخلافات في المواقف لإضعاف البريكس. وقد دخلت على البريكس أربع دول إسلامية بينها خلافات وبعضها معروف بولايته لدول مجموعة السبع الكبرى. وقد رأينا أن أوروبا بعدما توسعت في عضويتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي عادت وتشددت في قبول أعضاء جدد، أو منح بعض الأعضاء الجدد حق الدخول في ترتيبات مشتركة مثل “الشنغن” في اتفاقية اليورو. ولكن منذ حرب أوكرانيا، بدأ البعض ينادي بإدخال دول أكثر إلى عضوية الاتحاد.
والفرق بين G-7 من ناحية، والبريكس من ناحية أخرى أن مجموعة السبع مستقرة ولا تتغير. أعضاؤها ثابتون وهم يجتمعون كلما دعت الضرورة لذلك من أجل تنسيق مواقفهم. أما مجموعة البريكس فتسعى لأن تكون أكثر من مجرد جمعية، بل هي منظمة لها نشاطاتها واتفاقاتها وأدواتها مثل ترتيبات الدفع في ما بينها، وترتيبات التسويات الناجمة عن المبادلات وبنك آسيا التنموي، وقريباً إنشاء مؤسسة على غرار صندوق النقد الدولي. ولديها مشروعان تنمويان كبيران وهما مبادرة الحزام والطريق، والكوريدور الهندي. وبسبب هذه الظروف، فإن احتمالات الخلاف والتناقض خاصة بين أعضائها الكبار هي أكثر ترجيحاً، لذلك فهي تكون عرضة للتغييرات في عضويتها وهيكلها أكثر من مجموعة السبع الكبرى.
ولكن، رغم هذه الاحتمالات، دعونا نعترف بأن هاتين المجموعتين، حتى لو تغيرت بعض هياكلها وخريطة عضويتها، فسوف تبقيان تمثلان بؤر الصراع والتنافس الكبرى في العالم. وهذه الدول وإن تغير ترتيبها العالمي من حيث القوة، فإنها ستبقى ضمن مجموعة الدول العشر العظمى، وهي الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة، وفرنسا وكندا والبرازيل. ومن المرجح أن تبقى الولايات المتحدة وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا في جانب، والصين وروسيا في جانب آخر. أما الهند والبرازيل، فإن كليهما مرشح أن يختار دوراً أكثر حيادية.
والسؤال الذي يستحق الطرح هو: أين موقع الوطن العربي من احتمالات أن تدور القطبية العالمية مستقبلاً ضمن الأفلاك التي رسمناها جغرافياً في الفقرة السابقة؟
هناك دول عربية ثلاث موجودة أعضاء ضمن مجموعة البريكس وهي للتذكير السعودية، والإمارات، ومصر. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول الثلاث نحو 500 مليار دولار لمصر، و1.25 تريليون للسعودية و600 مليار للإمارات، أو ما مجموعه في نهاية عام 2023 حوالي 2.350 تريليون دولار، أو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي لروسيا وهي في الواقع قيمة كبيرة. وإذا أضفنا إيران دولةً شرق متوسطية رابعة، فإن هذا الرقم سوف يقفز إلى نحو ما يزيد عن 2.7 تريليون دولار.
ولكن أهمية هذه الدول الأربع، بغض النظر عن الخلافات القائمة بين الدول العربية الثلاث وإيران، فإنها تقع كلها على بحر العرب، والخليج والبحر الأحمر ومضيق هرمز، والبحر المتوسط، وقناة السويس. وإن أي إغلاق للملاحة في هذه المضائق والممرات المائية سيرفع من القيمة الجيوسياسية لهذه الدول. وإذا صدقت الأخبار والتحليلات التي تؤكد أن السعودية لم تكن راغبة في أن تكون عضواً في البريكس، وأنها دخلت لكي تحول دون دخول الجزائر عضواً لمصلحة دولة المغرب، فإن احتمالات أن تصبح الدول العربية وإيران الأعضاء في البريكس كعب أخيل في هذه المنظمة. وفي هذا خطورة مستقبلية أن تصبح دول الشرق الأوسط مصدر قلق للصين والهند وروسيا، علماً أن العلاقات التي تجمع السعودية والإمارات معقدة مع كل من الصين وروسيا والهند تحديداً، فالإمارات والسعودية تُعتبران من ناحية حليفين للغرب، وهما عضوان في مجموعة العشرين.
وقد تحمس هذان البلدان للمبادرة التي قدمها الشيخ محمد بن زايد لِقِمة العشرين كما قال الرئيس جو بايدن في نيودلهي عام 2022، وهو مشروع الكوريدور أو الممر الهندي الذي قد يصبح إمّا منافساً لمبادرة الحزام والطريق الصينية، أو أن يتناغم معها ويصبح المشروعان مكملين لبعضهما البعض. وحتى هذه اللحظة لا يبدو أن أي اتجاه سوف يسود على الآخر.
ولكن التعقيد في العلاقات أعمق من ذلك. فتجارة النفط التي راجت وارتفعت أسعارها بفضل مساهمة روسيا مع مجموعة أوبك ضمن تحالف (أوبك+) تجعل بقاء المشاركة الروسية ضرورية لمجابهة الضغوط الغربية لتخفيض الأسعار. وبالمقابل، فإن الصين والهند هما المشتريان الكبريان للنفط السعودي والإماراتي، والذي جعل الصين أكبر شريك تجاري للعالم العربي 398 مليارا عام 2023، بينما بلغت التجارة العربية مع الهند 162 مليار دولار في نفس العام. ولو أضفنا إلى ذلك حوالات الهنود العاملين في دول الخليج البالغة نحو 40 – 50 مليار دولار سنوياً. وعليه، فإن مجموع التجارة العربية عامة والخليجية خاصة مع كل من الصين والهند يشكل نحو 250 مليار دولار سنوياً. ولذلك، فإن من الصعب جداً على دولة كالسعودية أن تنحاز بشكل واضح للغرب على حساب شركائها في الشرق لما في ذلك من تشويش كبير على مستقبل برامجها التحديثية والتنموية.
بريكس في اختتام اجتماعاتها في جوهانسبرغ أمس (Getty)
اقتصاد دولي
ماذا يعني اقتصادياً ضم 6 أعضاء جدد لمجموعة بريكس؟
وما يزيد العلاقات تعقيداً هو الخلاف الجوهري الكبير بين مصر وإثيوبيا العضو الخامس الجديد في مجموعة البريكس. ولإثيوبيا أدوار مهمة في أفريقيا، والاتحاد الأفريقي يقف مع إثيوبيا متعاطفاً في خلافها مع مصر حول سَدّ النهضة. والسودان الواقعة بينهما تشهد حرباً ضارية، ما يجعل تطبيق أي تفاهم لتقاسم مياه النيل والسيطرة على احتمالات فيضانه صعباً للغاية. ومن ناحية أخرى، فإن إثيوبيا أصبحت الآن بدون إطلالة على البحر الأحمر- بعد استقلال إرتيريا- إلا من خلال اعتمادها على جيبوتي، لذلك قامت الصين ببناء سكة حديد بطول 800 كم من أديس أبابا العاصمة الإثيوبية إلى جيبوتي.
أمام هذا التعقيد، تثور الآن قضية غزة وحرب إسرائيل العدوانية الأثيمة عليها. ومن الواضح أن حجم الدمار والقتل والترويع والسعي للتهجير الذي تمارسه القوات العدوانية الإسرائيلية، وتستر أميركا عليه وتصريحات المسؤولين الأميركيين المنحازة وغير الذكية، لا يعكس فقط مقدار التغطية على إسرائيل المفضوحة عالمياً، وإنما يعكس أيضاً أهمية كسر كرامة المقاومة بغض النظر عما يخطط له في هذه المنطقة. ولذلك يثور السؤال الكبير: أين الوعي والعمل العربي الذي يرقى لمقدار العدوانية ضدهم من قبل بعض الدول العربية ورأس حربتها في المنطقة؟ لأن لدى العرب الآن فرصة أمام تغيير الموازين في العالم لكي يحسنوا موقفهم التفاوضي مع جميع العالم، وأن يتفاهموا مع بعضهم البعض على استراتيجية ومنهجية تفاوضية تحسن موقفهم النسبي وتمكنهم من استثمار الفرص المتاحة، وبعضها متاح على شكل تحديات لكي يؤمنوا لشعوبهم حياة كريمة.
إسرائيل كشفت، وهي تعلم مقدار الثروة المنتظرة في مالنا العربي، وتريد أن تكون في موقف يمكنها من أن تكون عراباً. وقد كشفت غزة وأهلها الأبطال أن هذا الدور أكبر منهم بكثير. فهل سيتولى العرب القيام بالدور المطلوب منهم، أم أننا سنبقى ساكتين حتى يأتي يوم يعض فيه العرب الأصابع ندماً؟