إذا نفذت إسرائيل بالكامل التدابير الضريبية والمصرفية وتدابير تعويضات الضحايا التي اتخذتها مؤخراً، فقد تؤدي إلى انهيار الاستقرار النسبي الذي شهدته الضفة الغربية على مدى عقدَين من الزمن، كما ستقضي على أي مخطط لاضطلاع السلطة الفلسطينية بدور في غزة بعد الحرب.
في 22 أيار/ مايو، أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أنه يعتزم رفض تحويل عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية حتى إشعار آخر. وفي إشارة إلى تطوّرين دوليين حديثين – اعتراف أيرلندا والنرويج وإسبانيا الأحادي الجانب بالدولة الفلسطينية، والإعلان عن أن “محكمة العدل الدولية” ستطلب استصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين – قال الوزير اليميني المتطرف: “يعمل الفلسطينيون ضد إسرائيل باستخدام الإرهاب السياسي ويروجون لخطوات أحادية الجانب تجاه العالم، لذلك لا ينبغي أن نستمر في تحويل الأموال إليهم… وإذا تسبب ذلك بانهيار السلطة الفلسطينية، فلتنهار… لن أحاول إنعاش السلطة الفلسطينية اصطناعياً لكي تعمل ضدي”.
كما أعلن سموتريش عن نيته اتخاذ خطوة إضافية تترتب عنها تداعيات واسعة النطاق، إذ هدد بعدم تمديد نظام تأمين التعويض الذي توفره الحكومة لمصارف المراسلة الإسرائيلية التي تحوّل الأموال إلى المصارف في الضفة الغربية بحلول نهاية حزيران/يونيو. ويُعد هذا التعويض ضرورياً لأن المصارف تخشى أن تتعرض للعقوبات بسبب تحويل الأموال للأنشطة الإرهابية. وتنطوي العواقب العملية لهذا التهديد على توقف المصارف الإسرائيلية عن إجراء معاملات تتعلق بحسابات المصارف الفلسطينية (بما في ذلك تحويل عائدات الضرائب)، وعدم تمكن الشركات الإسرائيلية التي تتعامل مع السلطة الفلسطينية من إيداع الشيكات لدفع رواتب العمّال الفلسطينيين في إسرائيل أو إجراء التحويلات المصرفية الإلكترونية.
بالإضافة إلى ذلك، من المقرر أن يدخل قانونان إسرائيليان إضافيان حيز التنفيذ في الأول من حزيران/يونيو، حيث سيؤثران أيضاً على الوضع المالي للسلطة الفلسطينية، وهما “قانون تعويض ضحايا الإرهاب” و”قانون تعويض ضحايا الأعمال العدائية”. وسيمنح القانونان ضحايا الأعمال الإرهابية الحق في المطالبة بتعويضات من السلطة الفلسطينية، تُقتطع من جميع أموال السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها إسرائيل، بما في ذلك عائدات الضرائب. وبطبيعة الحال، قد يؤدي هذا التشريع إلى دعاوى قضائية ضد السلطة الفلسطينية تصل قيمتها إلى مئات ملايين الدولارات، مما قد يؤدي إلى انهيار اقتصادها.
وإذا تم تنفيذ هذه التدابير مجتمعة، فمن شأنها أن تضعف تدريجياً قدرة حكومة السلطة الفلسطينية على العمل، وستعيق بدرجة كبيرة من قدرتها على دفع رواتب الموظفين (ومن بينهم عناصر الأمن) وتقديم الخدمات للمدنيين، أو حتى ستقضي عليها. وبعبارة أخرى، سيعني ذلك انهيار السلطة الفلسطينية – حتى لو لم يكن ذلك بحكم الأمر الواقع، وبالتأكيد بحكم القانون – وإلى تفاقم التدهور الاقتصادي في الضفة الغربية.
وإذا اقترن القصور الوظيفي للسلطة الفلسطينية بالوضع الاقتصادي الصعب فقد يؤديان مجتمعَين إلى الفوضى والعنف والإرهاب ضد السلطة الفلسطينية والإسرائيليين على حد سواء. وثمة أيضاً أسباب معقولة تدفع إلى الافتراض أن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي لا تملك على أي حال دافعاً كبيراً للتعاون مع إسرائيل أو القضاء على الإرهاب، ستصبح أقل تحفيزاً للقيام بذلك، وأن “المقاومة”، ولا سيما “حماس” التي تسعى إلى تقويض الاستقرار في الضفة الغربية، ستستفيد من الوضع.
الاستقرار النسبي السائد منذ عقدَين بات مهدداً
عندما انتهت الانتفاضة الثانية وتبوّأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس السلطة في عام 2005، شهدت الضفة الغربية فترة طويلة من الاستقرار النسبي استمرت قرابة عقدين من الزمن، باستثناء بعض الأزمات. ولكنها تواجه اليوم أخطر تهديد لها.
ويقوم استقرار الضفة على ثلاث ركائز أساسية هي:
حكومة فلسطينية فعالة نسبياً تتعاون مع إسرائيل ولا سيما في القضايا الأمنية.
شعب فلسطيني يحاول تأمين قوته اليومي، ولا ينخرط في الغالب في أعمال العنف.
محدودية قوة العناصر الإرهابية، وخاصة حركة “حماس”.
وفي إطار هذا الترتيب، توفر إسرائيل للسلطة الفلسطينية وسكان الضفة الغربية شبكة أمان اقتصادي، وتحصل في المقابل على تنسيق أمني وهدوء نسبي من عامة الناس. وحتى في الوقت الحالي، بعد مرور أشهر على اندلاع حرب غزة، لا يزال معظم سكان الضفة الغربية يحافظون على الهدوء إلى حد ما ويتجاهلون دعوات “حماس” لفتح جبهة أخرى ضد إسرائيل.
ومع ذلك، تسببت الحرب في مشكلة كبيرة أخرى في الضفة الغربية – فقد أدت إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي في أراضيها. وبعد اندلاع الصراع مباشرة، مُنع 170 ألف عامل من الضفة الغربية من مواصلة عملهم في إسرائيل، ووجّه فقدان الأجور ضربة موجعة للاقتصاد الفلسطيني.
وفي الوقت نفسه، خفضت إسرائيل عائدات الضرائب الشهرية للسلطة الفلسطينية، والتي بلغ متوسطها نحو 175 مليون دولار من ضرائب الاستيراد، وضرائب الاستهلاك، وضرائب القيمة المضافة، والضرائب المباشرة. وقد أصبحت هذه الضرائب المصدر الرئيسي لإيرادات السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة. وبموجب “اتفاقية أوسلو”، تقوم إسرائيل بجمع عائدات الضرائب لصالح السلطة الفلسطينية ومن ثم تحويلها إلى رام الله بعد خصم رسوم الخدمات الإسرائيلية المقدّمة للفلسطينيين، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي. ومع ذلك، قرر سموتريش البدء بخصم حصة غزة من عائدات الضرائب أيضاً.
وحالياً، تبلغ قيمة الدَين الخارجي للسلطة الفلسطينية 5.4 مليار دولار موزعة بين ديون للمصارف ولمقدمي الخدمات ومدفوعات المعاشات التقاعدية. ويصل العجز الشهري إلى نحو 110-125 مليون دولار، مقارنة بحوالي 50 مليون دولار في الأوقات العادية. أما نصيب الفرد من “الناتج المحلي الإجمالي” فبلغ 910 دولارات في الربع الرابع من عام 2023، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 20% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، في حين وصلت حالياً نسبة البطالة في الضفة الغربية إلى 30%.
ولا بد من الإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية تدفع من 50 إلى 70% فقط من قيمة الرواتب لموظفيها البالغ عددهم 145 ألف موظف، ومن بينهم عناصر الأمن المسؤولين عن منع الإرهاب. وقد أثّر ذلك سلباً في أدائهم وتوقف الكثير منهم عن القدوم إلى العمل بانتظام.
وفي شباط/فبراير، أعلن “البنك الدولي” أن ميزانية السلطة الفلسطينية معرضة للانهيار التدريجي بسبب تأثير حرب غزة على العمالة والاستهلاك في الضفة الغربية. وأشارت بيانات أحدث عهداً “للبنك الدولي” عن احتمال تعرض السلطة الفلسطينية لانهيار اقتصادي.
ما الذي يريده سموتريتش فعلاً؟
في أيلول/سبتمبر 2017، نشر سموتريتش خطة لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وتتضمن هذه الخطة، التي أُطلق عليها اسم “الخطة الحاسمة”، محو «الخط الأخضر» وضم جميع الأراضي إلى إسرائيل وإغراق الضفة الغربية بالمستوطنين الإسرائيليين. بمعنى آخر، طرح سموتريتش “حل الدولة الواحدة” بشكل مفصل، على أن تكون هذه الدولة إسرائيل.
أما فيما يتعلق بمصير الفلسطينيين، فكتب سموتريتش، “كل من يريد أن يتخلّى عن تحقيق تطلعاته الوطنية ويستطيع أن يفعل ذلك، سيكون قادراً على البقاء هنا والعيش كفرد في الدولة اليهودية… ولن يُعتبر المقيم هنا مواطناً إسرائيلياً، بل سيعيش في إطار نموذج من شأنه تمكين «الإدارة الذاتية لحياة المجتمع»… ومع تقدم العملية واستيعابها، سيتمكن هؤلاء الفلسطينيون من الاندماج كمواطنين في دولة إسرائيل.” أما الفلسطيني الذي “لا يرغب أو لا يستطيع التخلي عن تطلعاته الوطنية” فسيحصل على “مساعدة إسرائيلية للهجرة إلى إحدى الدول العربية المتعددة، أو إلى أي وجهة أخرى في العالم”.
وتجدر الإشارة إلى أن سموتريتش يشغل إلى جانب منصبه كوزير للمالية منصباً هاماً في وزارة الدفاع، حيث يتولى مسؤولية “الإدارة المدنية” ومستوطنات الضفة الغربية. ويمنحه ذلك سلطة كبيرة في الضفة الغربية، لا سيما في مجال تعزيز المستوطنات وزيادة السيطرة الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين. فقد أعلن مؤخراً، على سبيل المثال، أنه سيقيم مستوطنة جديدة في الضفة الغربية لكل دولة تعترف بفلسطين كدولة.
بالإضافة إلى ذلك، يُعد سموتريتش الجهة الفاعلة الرئيسية وراء التغييرات الاستيطانية وفرض القيود الاقتصادية وغيرها من التدابير التي تطال الضفة الغربية، ولكن رؤيته المتعلقة بتوسيع نطاق السيادة اليهودية بدرجة أو بأخرى تحظى بتأييد أعضاء آخرين في الحكومة (انظر مثلاً المبادئ التوجيهية لسياسة حكومة نتنياهو الجديدة التي نُشرت في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2022). وعلى غراره، لا يرى الكثيرون منهم في الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية مشكلة، بل خطوة أخرى نحو تحقيق رؤيتهم السياسية والدينية والوطنية.
الخاتمة
لطالما عانى اقتصاد السلطة الفلسطينية من ضعف هيكلي أساسي ومن اعتماد عميق على إسرائيل. ومع ذلك، تمكّن الطرفان من الحفاظ على أمن واستقرار اقتصادي نسبيين في الضفة الغربية على مدى عقدَين من الزمن. لكن المؤشرات الحالية، أي منع العمال الفلسطينيين من العودة إلى إسرائيل خلال الحرب، والخصم المتزايد من عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية، والتهديد الذي يطرحه قانونان اقتصاديان جديدان قد يستنزفا أموال السلطة الفلسطينية، تدلّ جميعها إلى احتمال انهيار السلطة الفلسطينية ووقوع أزمة اقتصادية في الضفة الغربية في الأشهر المقبلة.
قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، كانت الضفة الغربية تشهد بالفعل مستوى مرتفعاً من العنف، وأظهرت حرب غزة إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا العنف، وبأي سرعة. ولا تريد إسرائيل إدارة أزمة أمنية أخرى بينما تحاول استكمال الحملة في غزة وردع التصعيد في شمال البلاد وجنوبها.
ومع ذلك، أوضح سموتريتش أن انهيار السلطة الفلسطينية يندرج ضمن خطته، ولم ترتفع أي أصوات في الحكومة الإسرائيلية لمعارضة وجهة النظر هذه. وإذا تم تنفيذ هذه السياسة بالكامل، فلن تؤدي إلا إلى عرقلة الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وشركاؤها العرب لإصلاح السلطة الفلسطينية، في وقت تشتد فيه حدة التوترات مع واشنطن.
وأخيراً، إذا أرادت إسرائيل الحفاظ على طابعها اليهودي والديمقراطي على المدى الطويل وتجنب التوجه نحو “دولة واحدة لشعبين”، عليها أن تبذل كل ما في وسعها للحفاظ على الفصل القائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ويشكّل وجود سلطة فلسطينية فعالة شرطاً أساسياً لتحقيق هذا الهدف، وكذلك الجهود الرامية إلى توفير الأمن والاستقرار ومستوى معيشي معقول لسكان الضفة الغربية.