انتهاء رئاسة محمد خاتمي في الثالث من أغسطس (آب) عام 2005 وتولي محمود أحمدي نجاد رئاسة السلطة التنفيذية شكّلا الحلقة الأخيرة في جهود النظام للسيطرة على مراكز القرار في الدولة، إذ سبق ذلك بأشهر استحواذ قوى النظام على السلطة التشريعية في الانتخابات التي جرت في الـ27 من مايو (أيار) 2004، وبات ما يعرف بالرئاسات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في قبضة التيار المحافظ والموالي للنظام.وفي الوقت نفسه، وعلى العكس من الصعود المحافظ وخطاب الدولة الإسلامية، شكّل هذا التاريخ بداية دخول الخطاب الإصلاحي ومعه الأحزاب والقوى المطالبة بالإصلاحات في مسار الضمور والتراجع تحت ضربات منظومة السلطة وأجهزتها الأمنية والسياسية، وتحولت تجربة “الثورة الخضراء” وترشيح مير حسين موسوي في يونيو (حزيران) عام 2009، كمحاولة للتمسك بوجودها ودورها وموقعها في المجتمع الإيراني وبمواجهة قوى النظام، إلى استفزاز النظام لتوجيه ضربته القاسية لهم وإدخالهم في حال من الإغماء السياسي، وكاد يتحول إلى الموت السريري إذا جاز التعبير.
وواجه الإصلاحيون خلال العقدين الأخيرين عجزاً واضحاً في ترميم قنوات تواصلهم مع الطبقات الاجتماعية، بخاصة في ما يتعلق بمحاولة الإبقاء على الخطاب الإصلاحي حاضراً ومؤثراً في الأوساط الاجتماعية. إلا أن الهوة الكبيرة كانت واضحة، وتعمقت بصورة كبيرة خلال الأحداث الأخيرة التي شهدتها إيران في سبتمبر (أيلول) 2022 على إثر مقتل الفتاة مهسا أميني على أيدي عناصر “الشرطة الأخلاقية”. واكتشف الإصلاحيون أن المستهدف أو القوى الشبابية التي من المفترض أن تشكل الجسم الاجتماعي الحامل خطابهم ومشروعهم باتت في مكان آخر، وأن جيلاً جديداً تجاوز خطابهم ومشروعهم التسووي، إلى مكان آخر لا يخاف من إعلان مطالبه بتغيير النظام بكل وضوح وصراحة، وأن محاولات التوفيق بين سلطة ثيوقراطية مع الآليات الجمهورية لم تعُد تلبي طموحاتهم، وهي اللحظة التي التقطها مير حسين موسوي وأحرج بها خاتمي وكل القيادات الإصلاحية بالدعوة إلى تشكيل مجلس تأسيسي وتغيير الدستور الإيراني.
وقرار مجلس صيانة الدستور بقبول ترشيح مسعود بزشكيان بصفته مرشحاً مباشراً لجبهة الإصلاحات، جاء وكأنه “رمية من غير رامٍ” صبّت في مصلحة الخطاب والقوى الإصلاحية والمعتدلة، لتستفيق على الصدمة التي أعادتها إلى الواجهة من جديد، وأعادت وضعها داخل المشهد السياسي الذي بدأ يعتاد على مسار الأفول الذي دخل فيه نتيجة محاصرته من قبل السلطة وأدواتها، والشعور بعمق الأزمة في التواصل مع الشرائح الاجتماعية.
قد تبدو القوى الإصلاحية والمعتدلة للوهلة الأولى في حال عدم اتزان، نتيجة اعتقادها بصعوبة هذه العودة، خصوصاً أنها دخلت في تحدٍّ مباشر مع منظومة السلطة، عندما اشترطت عدم مقاطعتها للانتخابات وصندوق الاقتراع بأن يكون لها مرشحها الخاص والعلني. وهي اللحظة التي التقطها مجلس صيانة الدستور ودوائر القرار لتوظيف هذا الموقف من أجل رفع مستوى المشاركة الشعبية في الاقتراع، فيكون قادراً من جهة على معرفة حجم ما تبقى من قواعد شعبية للقوى الإصلاحية، ومن ناحية أخرى لاستخدامها في ترميم شرعيته التمثيلية التي اعتبرها المرشد الأعلى الورقة الأقوى في مواجهة “أعداء إيران”.
براغماتية النظام في التعامل مع إعادة بث الحياة في القوى الإصلاحية وعودتها لتكون فاعلة في المشهد السياسي ضمن الحدود التي رسمها ويرسمها لهذه العودة بقدر المستطاع، قابلتها براغماتية واضحة من هذه القوى التي تتعامل مع الحدث الانتخابي ومشاركتها في هذا السباق. والخطاب الانتخابي الذي بدأت التركيز عليه ينحو كثيراً وبصورة واضحة نحو “الواقعية” السياسية والاجتماعية. لذلك فإن رهانها على تحقيق فوز كبير يشكل خرقاً أو يهدم كل الجهود المتراكمة التي بذلتها قوى النظام للاستفراد بالسلطة، محكوم بهذه الواقعية، وأن الهدف المباشر من هذه الانتخابات، سيكون السعي بالدرجة الأولى إلى إعادة بناء الثقة بين الطبقات الاجتماعية التي انفضت عنها وتجاوزتها، ومن ثم في الدرجة الثانية استغلال فرصة احتدام المعركة بين مرشحي التيار المحافظ التي من المحتمل أن تتحول إلى معركة “كسر عظم” بين الجناح المتشدد السلفي الذي يمثله سعيد جليلي وجناح المحافظين التقليديين الرسمي ممثلاً بمحمد باقر قاليباف، لتحسين شروطها وشروط مشروعها في المشهد الانتخابي والسياسي.
البراغماتية الإصلاحية يبدو أنها لن تكون محدودة في التعامل مع التيار المحافظ، أو مقتصرة على المعركة الانتخابية مع مرشحي الفريق الآخر. فالمؤشرات التي تصدر عن قيادات وأوساط القوى الإصلاحية تكشف عن نوع جديد من الواقعية السياسية في التعامل مع المرشد الأعلى الذي يعتبر في أدبياتهم المتهم الأول المسؤول عن سياسة الإقصاء التي مورست بحقهم في الأعوام الماضية.
الخطاب الانتخابي الذي تحرص هذه القوى على ترويجه في هذه المرحلة يقوم على محاولة الفصل بين المعركة الانتخابية والمرشد الأعلى، أي السعي إلى عدم استفزاز المرشد كي لا يؤدي ذلك إلى تخريب هذا المسار الذي بدأ، وأن يلجأ إلى خطوة تصعيدية من خارج السياق تدفعهم إلى خارج العملية الانتخابية.
هذه البراغماتية أو الواقعية التي تكشف عن وجود وعي سياسي مختلف بين أقطاب القوى الإصلاحية، ويسعون إلى التأكيد عليها في حملتهم الانتخابية ومخاطبة مناصريهم والأصوات الرمادية، هي قناعة نتجت من تراكم تجاربهم عندما كانوا في السلطة في عهدي الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني، بعدم إمكان إحداث تغيير جذري في سياسات النظام الاستراتيجية الداخلية والخارجية، والتركيز، في المقابل، على المساحة المتاحة لممارسة سياسات إصلاحية على المستوى الداخلي في المجال الاجتماعي والاقتصادي والمالي، وبذلك السعي إلى الحفاظ على علاقة جيدة وغير متوترة مع المرشد الأعلى والقبول بالحدود التي يرسمها لدور السلطة التنفيذية سواء كانت إصلاحية أو محافظة.