قررت العربية السعودية، أحد أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم فك الارتباط الحصري لعقود الذهب الأسود بالدولار، وهو القرار الذي يشكل منعطفا حقيقيا وينهي حقبة تسيدت فيها الولايات المتحدة، ويدشن حقبة أخرى ضمن مسلسل التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم.
وقررت الرياض حتى الآن عدم تجديد اتفاقية ربط بيع النفط بالدولار، التي جرى التوقيع عليها منذ خمسين سنة، وانتهت يوم 9 يونيو/حزيران الجاري، وهذا يحمل زلزالا حقيقيا إذا بقيت السعودية في قرارها في عالم المال والأعمال والتموقع الجيوسياسي العالمي. وكانت اتفاقية البترودولار المتفق عليها خلال يونيو 1974 هو بيع هذه المادة الطاقوية بالعملة الأمريكية فقط، دون باقي العملات وقتها مثل، المارك الألماني والفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني، وهكذا أصبح البترودولار يعكس نظاما اقتصاديا – ماليا بزعامة الولايات المتحدة، أكثر منه مجرد عملة للتبادل التجاري. وحرصت الولايات المتحدة كل الحرص على استمرار هذا النظام المالي، بل شنت حروبا ضد كل من سولت له نفسه التشكيك في هذا النظام المالي، ولا يمكن فهم أحد عوامل الحرب ضد العراق سنة 2003، أو المشاركة الأمريكية في الإطاحة بنظام معمر القذافي في ليبيا، من دون قرارهما التفكير في تغيير بيع النفط بعملات أخرى، خاصة اليورو في حالة العراق، وإصدار عملة افريقية في حالة ليبيا.
قرار السعودية فك اقتصار عقود النفط بالدولار، هو نهاية حقبة في النظام المالي العالمي، وبداية مرحلة ستعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي وتأثيره على العلاقات السياسية والعسكرية
اكتسب مصطلح البترودولار سمعة سيئة للغاية، فقد أضحى من النعوت السيئة في وصف الإمبريالية الأمريكية، وتدخلها في شؤون باقي العالم من جهة، وفي نعت بعض الخليجيين بنعوت سلبية مثل، الإسراف في التبذير الى مستويات سريالية. وإذا كان هذا النظام المالي قد ساهم في إرساء استقرار الوضع المالي العالمي، لاسيما وأن العملة الأمريكية كانت هي الأقوى بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن واشنطن استغلت هذا النظام لفرض قرارات مالية لخدمة أهدافها السياسية والعسكرية. ونظرا للدورة الحضارية، بمفهوم ظهور قوى وتراجع أخرى، فالعالم يعيش بامتياز تراجع قوة الغرب، خاصة الولايات المتحدة بسبب نهضة دول الجنوب وأساسا استعادة حضارات قديمة دورها السابق في صنع القرار العالمي، ونتحدث عن الصين وروسيا، ثم الهند، وقوى متوسطة مثل، تركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا. وهكذا قررت السعودية إلى جانب الاستمرار في الاحتفاظ بالدولار، إنهاء الاستثناء وتوقيع عقود النفط المستقبلية بعملات أخرى منها اليوان الصيني والين الياباني واليورو الأوروبي مع الانفتاح على عملات وطنية أخرى. ويبدو قرار السعودية منطقيا في ظل قوة الصين الاقتصادية لأنها تحولت الى أكبر مستورد للنفط السعودي بينما الولايات المتحدة هي أكبر منافس في تصدير النفط. وكانت روسيا هي الأولى التي ربطت النفط بعملتها الوطنية الروبل سنة 2006، ثم الغاز سنة 2022 بعد اندلاع حرب أوكرانيا. وراهنت الصين ابتداء من سبتمبر/أيلول 2017 على جعل عملتها اليوان عملة نفطية قابلة لشراء وبيع النفط. وعلميا، بدأت يوم 26 مارس/آذار 2018 في توقيع عقود النفط بعملتها الوطنية المضمونة بالذهب. مبادرات الصين وروسيا تعتبر مهمة للغاية، لكن السعودية هي التي توجت هذه العملية بقرارها الأسبوع الماضي. وهذا القرار الذي سيجر دولا أخرى من الخليج إلى تبنيه، والاعتماد على مختلف العملات القوية، لاسيما في ظل ظهور شركاء تجاريين أقوياء جدد، يبدو منطقيا كذلك بحكم انتماء السعودية إلى دول البريكس منذ السنة الماضية، وما اكتسبته دول البريكس من وزن في السياسة والاقتصاد العالميين، سيتجاوز الغرب برمته مستقبلا وتجاوز الآن وزن الدول السبع. في الوقت ذاته، بدأت السعودية تنويع شركائها في اقتناء الأسلحة، بدل الاعتماد على الولايات المتحدة بشكل أحادي.
ومن ضمن التغيرات الكبرى لهذا القرار هو أن التخلي عن ربط النفط بالدولار سيعزز من رهان روسيا والصين ودول البريكس على إنشاء نظام مالي للتحويلات مخالف عن نظام السويفت، وتتحكم الولايات المتحدة في نظام السويفت وجعلت منه العصا لمعاقبة الدول التي تعتبرها متمردة أو مارقة، حيث حرمتها من الاعتماد على الدولار في معاملاتها المالية. ومن ضمن القرارات التي اتخذها الغرب ضد روسيا بعد غزوها شرق أوكرانيا هو حرمانها الاعتماد على نظام سويفت، وبالفعل، منذ بدء الاعتماد على اليوان الصيني كعملة دولية للتبادل، تنفس اقتصاد دول مثل فنزويلا وإيران التي تخضع للعقوبات الأمريكية والغربية. صراع العملات بدأ يدفع عددا من الدول الموجودة في الإقليم الواحد إلى استعمال العملات الوطنية، لكي تحقق التكامل الاقتصادي من دون الاعتماد على الدولار. ويبقى انخراط باقي دول العالم، وإن كانت صغيرة في تهميش الدولار دعما للتحول القائم في صراع العملات في العالم حاليا. ومن ضمن الأمثلة، تعتمد تركيا وإيران التبادل التجاري بعملاتهما الوطنية منذ سنوات، ومنذ السنة الماضية، تدرس الأرجنتين والبرازيل إنشاء عملة موحدة.
الحديث عن عالم متعدد الأقطاب، لا يعني فقط إعادة النظر في دور المؤسسات الدولية، وإشراك أكبر نسبة من الدول في القرارات السياسية الكبرى، بل يعني كذلك نهاية الهيمنة العسكرية بظهور، ليس فقط قوى عسكرية جديدة، بل بظهور دول ذات صناعة عسكرية رائدة، مثل تركيا وإيران والبرازيل. ويعني كذلك نهاية ارتهان النظام المالي العالمي، خاصة في الطاقة لعملة واحدة وهي الدولار. إن قرار السعودية فك اقتصار عقود النفط بالدولار، هو نهاية حقبة في النظام المالي العالمي، وبداية حقبة جديدة، لأننا أمام مرحلة ستعيد تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي وتأثيره على العلاقات السياسية والعسكرية. ويحدث هذا في ظل تسارع التغييرات الجيوسياسية العميقة التي يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة.