لم تعد ترد في تصريحات المسؤولين الأميركيين كلمة عرب أو عربي. أصبحت الشعوب العربية في الخطاب الرسمي للبيت الأبيض تنتمي إلى طوائف ومذاهب. وأكثرية وأقلية. ويتردد صدى هذه التصريحات في خطاب الليبيراليين عندنا. وهم، في المناسبة، ليبيراليون على طريقة داعيتي الحروب جون بولتون وجون ماكين (الأخير دعا إلى تشكيل جيش من مئة ألف مقاتل سُنّي) والمحافظين الجدد الذين تراجع دورهم السياسي المباشر لكن نظرياتهم ما زالت رائجة في مراكز البحوث والصحف والأوساط الثقافية. وأصبحت الحدود بين دولنا طائفية، بالمعنى السياسي للكلمة. وتراجعت الدعوات القومية والوطنية إلى الحدود الدنيا.
لم يحدث هذا التحول فجأة. ولم يكن بفعل مؤامرة. بل له جذوره المحلية، ومشجعوه ومنظروه في الغرب. في أوروبا وأميركا برزت حركات قادها مثقفون أعادوا النظر في فلسفة الأنوار باعتبارها أطلقت الثورة الفرنسية والثورات اللاحقة في روسيا والصين وفيتنام، وفي معظم دول العالم الثالث التي استطاعت التخلص من الاستعمار وتأسيس جمهوريات قائمة، نظرياً على الأقل، على أساس المساواة بين المواطنين، إلى أي ديانة أو عرق انتموا (جورج قرم). ودعا هؤلاء إلى العودة إلى الدين في رسم السياسات الدولية والمحلية، ومنهم الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فوريه، والفيلسوف الشهير، أستاذ المحافظين الجدد، ليو شتراوس الذي تحول عدد من الماركسيين التروتسكيين على يديه إلى يمينيين متطرفين، معظمهم من اليهود، أمثال ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وبول وولفوفيتز الذين تسلموا مناصب رفيعة في إدارة الرئيس «المؤمن» جورج بوش الابن وكانوا وراء احتلال العراق، ودعموا، وما زالوا يدعمون نتانياهو في توجهه إلى إعلان إسرائيل دولة يهودية. (في أميركا عدد كبير من اللبنانيين محافظون جدد).
هذا التوجه الأميركي وجد صداه القوي في أوروبا، خصوصاً لدى رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الذي تحول إلى الكاثوليكية، وحول حزب العمال إلى حزب يميني تابع لواشنطن.
في العالم العربي، حيث نستورد كل شيء، كان لهذا التوجه الأميركي تأثيره الفاعل في أوساط المثقفين، خصوصاً الماركسيين الذين تحولوا من التنظير للصراع الطبقي والقومي إلى التنظير لصراع الطوائف والمذاهب، متأثرين أيضاً بواقع فشل الأنظمة العلمانية والقومية، وبنجاح الثورة الإيرانية وتحولها إلى دولة ذات طابع مذهبي، وبواقع «الصحوة الإسلامية»، من دون أن يلتفتوا إلى تجربتها الدامية في أفغانستان التي غرقت في صراع قبلي، وتحولت إلى تجمعات بشرية متناحرة. كما أنهم لم يلتفتوا إلى العراق الذي تحول إلى أفغانستان أخرى، ولا إلى سورية و «ثورتها» و «داعشيتها» أو «نصرتها». وهم يبررون تنظيراتهم مستشهدين بالحروب الدينية في أوروبا، خصوصاً حرب المئة عام.
صحيح أن إدارة الرئيس باراك أوباما ابتعدت كثيراً عن توجهات إدارة بوش، فألغت الحروب الاستباقية، وقررت الانسحاب من العراق، لكن الصحيح أيضاً أنها حافظت على توجهات بوش في ما يتعلق بالاعتماد على الدين لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط، وهي الآن تسلح وتدرب جماعات دينية «معتدلة» في سورية والعراق لتغيير المعادلة في الشرق الأوسط، ومواجهة روسيا العائدة إلى البحر المتوسط، وإيران الطامحة لأن تصبح دولة إقليمية عظمى، فألغت عبارة العرب من خطابها الرسمي، مثلما ألغيناها نحن.
مصطفى زين
نقلا عن الحياة