منذ العام 2003، ومع دخول القوات الأميركية العراق، في أبشع غزو واحتلال شهده التاريخ الحديث، ونبرة التقسيم لهذا البلد حاضرة، بل كان بعضهم يتوقّع ألّا يصمد هذا البلد طويلاً أمام دعوات تقسيمه من العواصم المُؤثّرة دولياً، حتّى إنّ خرائط عديدة انتشرت حينها ترسم حدودَ التقسيم المُقترَح، وكان يراد به تبديل خرائط الشرق الأوسط، تماماً كما جرى قبل نحو مائة عام، يوم أن خطّ وزيرا خارجية فرنسا وبريطانيا حدود هذا الشرق على رمال بدت في لحظتها مُتحرّكة، لكن سرعان ما استتبّ الأمرُ، وأُبِّدَت تلك الحدود المُصطنَعة، لتبقى تُذكّر العرب بنكبتهم الأولى، نكبة التقسيم، نكبة سايكس – بيكو.
ومع البدايات الأولى لتشكّل أول جسم سياسي لإدارة العراق عقب غزوه، تعالت نبرة التقسيم، والمرّة هذه من الذين ارتضاهم الاحتلال خَدَماً لعمليته السياسية التي فصّلها على مقاسه ومقاس مصالحه، ومِنْ ورائها طبعاً مصالح دول كثيرة في المنطقة كانت تريد أن تدفن عراقاً واحداً قويّاً مُستقلّاً، فهي كانت ترى فيه خطراً عليها، ليجيء الدستور العراقي، الذي صُوّت عليه عام 2005، ليكرّس هذا التوجّه، وإن كان بصيغة مُخفَّفة، يوم أُطلِق عليها اصطلاح الأقاليم، والتي شُرّعت وفقاً للدستور وبات من حقوق المحافظات العراقية أن تنتظم بنفسها أو بمفردها، في إقليم خاصّ بها.
وهنا كانت أولى دعوات تشكيل أول إقليم في العراق عقب الغزو، من دون إقليم كردستان العراق الذي كان واقعه قبل الغزو أصلاً، قد أطلقها ساسة (وقادة) القوى والتيارات والأحزاب الشيعيّة التي رأت أنّه لا بدّ من أن يكون هناك إقليم الجنوب والوسط، في إشارة إلى المحافظات العراقية ذات الغالبية الشيعيّة. يومها كان هناك شعور لدى العراقيين، على اختلاف توجّهاتهم وطوائفهم وعرقيّاتهم، أنّ هذه ليست سوى بداية لتقسيم سيطاول هذا الذي عرفوه، وعرفه التاريخ في العراق، فوقفت كثير من تلك القوى والتيارات السياسية، وحتّى الدينية والمجتمعية، ضدّ الفكرة التي سَوّقها داعموها أنّها ستمنع عودة الديكتاتورية، ونظام الحكم الشامل، اللذين عانى منها العراق كثيراً.
لم يستمرّ ذلك طويلاً بعد أن رأت تلك القوى أنّها بدأت تتمكّن أكثر فأكثر من السيطرة على العراق، العراق كلّه، لتبدأ هنا مرحلة أخرى من مراحل التبدّل والتغيير في المطالب والمصالح، فقد وقفت تلك القوى بشدّة ضدّ مشروعي إقليمي صلاح الدين وديالى اللذين سعى إليهما أعضاء مجالس المحافظتَين، وفقا لما كان قد قرّره الدستور سابقاً، بل وصل الأمر إلى رفض إقليم البصرة، الذي كان هو الآخر من مساعي مجلس محافظة المدينة.
تتعالى اليوم أصوات قوى سياسية عراقية سُنّية من أجل المطالبة بإقليم سُنّي، أسوة بالإقليم الكردي في شمال العراق، قوى تجد نفسها أنّها باتت مرغمةً على مثل هذه المطالبات في ظلّ عدم التوازن والإقصاء والتهميش التي مورست بحّق أهل السنّة في العراق، منذ 2003، قوى سياسية تجد أنّ الفرصةَ مواتيةٌ ليكون لمحافظات عراقية بعينها إقليم خاصّ بها مرتبط، وفقا للدستور، بالحكومة المركزية، ولكنّه يتمتّع بصلاحيات كبيرة تُخوّله أن يدير شأن محافظاته بالطريقة التي يراها مناسبة بعيداً عن هيمنة حكومة بغداد، التي لم تفلح بعد 21 عاماً في أن تقنع أحداً، لا قاعدتها الجماهيرية التي تتشكّل منها، ولا شركاءها في العملية السياسية من القوى الأخرى.
تتعالى أصوات قوى سياسية سُنّية تطالب بإقليم سُنّي، مرغمةً في ظلّ الإقصاء والتهميش في حّق أهل السنّة في العراق
وبغضّ النظر عن مثل هذه المطالبات، التي تبدو للوهلة الأولى دستوريةً، هناك تحدّيات كبيرة جداً تواجهها، لعلّ من أبرزها أنّ القوى الشيعيّة، الحاكم الفعلي للعراق، لا تقبل بمثل هذا الطرح وترفضه، وتقف بقوّة ضدّه، لأنّها لا تريد أن تخسر تلك المحافظات وما تدرّه من أموال لخزينة القوى السياسية الشيعيّة بفصائلها المُسلّحة، ومليشياتها التي تتشكل منها، والتي لها اليد الطولى، والقول الفصل، في المحافظات العراقية كافّة، وأولها المحافظات المُطالِبة بإقليم سُنّي.
من المهم التذكير بأنّ المطالبة بإقليم حقّ دستوري، ولا تعني بأيّ حال الانفصال، ولكن هل يمكن للسُنّة أو أيّ من محافظاتهم تشكيل إقليم؟…لا يرتبط ذلك برغبة الداعين إليه، بقدر ارتباطه بمصالح الفاعلين سياسياً وأمنياً واقتصادياً، سواء في داخل العراق أو في خارجه، فاليوم تسيطر الحكومة، التي يمكن وصفها بأنّها حكومة القوى السياسية الشيعيّة حصراً، على القرار في العراق، وتسيطر على تلك المحافظات، وهي في النهاية باتت ممرّاً للسلاح الذي ينقل من إيران عبر العراق إلى سورية ولبنان، ناهيك طبعاً عن تجارة المنافذ البرّية التي تدرّ ذهباً على تلك المليشيات، يضاف إلى هذا كلّه، أنّ الحكومة ترى في دعوة الأقاليم فرصةً لمحافظات أخرى، مثل البصرة، وبالتالي، لن تسمح بتشكيل الإقليم الذي سيُضعِف الحكومة المركزية، التي تهيمن عليها القوى والأحزاب الشيعيّة.
أما القوى الفاعلة الخارجية في العراق؛ إيران وأميركا وتركيا، فهي الأخرى لا ترى أنّ هناك فرصةً أو مصلحةً لمثل هذا الإقليم، خصوصاً وأنّ الحكومة الحالية تسير بنسق تَرضيَة الأطراف كلّها، المُهمّ أن تستمر حتّى انتخابات 2025، فهي الأخرى تعاني من تصدّع الجبهات داخل قواها الشيعيّة المُشكِّلة لها. لكن، في حال استمرّت حكومة بغداد الحالية، أو التي ستأتي بعد انتخابات 2025، في تجاهل مثل هذه الدعوات، وعدم الالتفات إلى مطالب تلك المحافظات، فإنّ الدعوة إلى إقليم قد تتحوّل دعوةً انفصاليةً مجنونةً، قد ترى فيها القوى الخارجية، كلّها أو بعضها، فرصتها لنهاية حقبة العراق الواحد، إن استدعت مصالحها ذلك، فهل ستعي بغداد الحكومة ما عليها من واجبات، أم تبقى تُمارس ما بدأته عام 2003 من إقصاء وتهميش، طاول السنّة والأكراد أيضاً؟