لعل مشهد الانحطاط السياسي والحزبي الداخلي الأمريكي كان بحاجة إلى مهزلة أخرى فاضحة تهبط به إلى أسفل سافلين، فتنحدر أنساق الابتذال إلى درك سحيق لا سابق لقيعانه المتدنية، وهذا ما توفر مؤخراً في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الذي استقرّ على الرئيس السابق دونالد ترامب مرشحاً لانتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر الرئاسية المقبلة.
وكأن مسرحية تحويل ترامب من مدانٍ بـ 34 تهمة جنائية إلى ضحية بريئة يتكالب عليها القضاء الأمريكي لم تكن تكفي، فتوجب أن تمرّ طلقة رصاص على مبعدة مللمترات من أذنه كي يحوله الغوغاء من أنصاره إلى «بطل» و»محارب» و»ناجٍ» من الموت بفعل معجزة إلهية.
ومن جانبه لم يتأخر ترامب في اقتياد أمريكا المناصرة له إلى حضيض أدهى، فاختار السناتور الجمهوري جيمس دافيد فانس (39 سنة) لمنصب نائب الرئيس المرشح، ضارباً عرض الحائط بلائحة السباب المقذعة التي سبق للأخير أن سردها بحقّ ترامب خلال الحملات الرئاسية لسنة 2016، وفي طليعتها أن الأخير ليس سوى «غبي» و»هتلر أمريكا».
ومنذ سنة 2022 حين ترشح لانتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، طوى فانس صفحة تلك المرحلة بالطبع، بل سارع إلى الانتقال نحو نقيضها تماماً فانخرط في صفوف الرافضين لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أوصلت الرئيس الحالي جو بايدن إلى البيت الأبيض، وشكك في نزاهة القضاء الأمريكي الذي يلاحق ترامب واعتبر سلسلة محاكماته «مسرحيات شائنة»، وامتدح الشغب العنصري في شارلوتسفيل.
وللأمريكيين شؤونهم في الاختيار بين بايدن وترامب، على خرف هذا وفضائحية ذاك، ولكن اختيار فانس لموقع نائب الرئيس يستوجب استذكار مواقفه المنحازة تماماً لدولة الاحتلال الإسرائيلي. فهو لا يساند حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة فقط، بل يؤيد التعديلات القضائية التي كانت حكومة بنيامين نتنياهو تعتزم تمريرها بما يضع المحكمة العليا الإسرائيلية على رفوف المهملات. وهو يرفض أي تقييد على تصدير الأسلحة إلى دولة الاحتلال، وإذْ يعتبر أعداد الضحايا الفلسطينيين «مسألة فيها نظر» فلكي يلقي بالمسؤولية على «حماس» وحدها وليس على جيش الاحتلال.
وبين أشهر تصريحاته حول الأسباب التي توجب على أمريكا توفير كلّ دعم لدولة الاحتلال، قوله بأن أمريكا تظل «بلد الأغلبية المسيحية الأكبر في العالم، وهذا يعني أن غالبية مواطنيها يؤمنون بأن يسوع المخلّص ولد ومات وبُعث في ذلك الشريط الضيق الصغير من الأرض على المتوسط. وفكرة أن توجد سياسة خارجية أمريكية لا تعبأ كثيراً بتلك الشريحة من العالم، هي أقرب إلى الهرطقة».
وإذ يعرب ساسة إسرائيليون كثر عن الابتهاج لاختيار فانس على بطاقة الترشيح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، بسبب تعاطفه الأعمى مع دولة الاحتلال، فإن شتائم الأخير لم تنصب على ترامب وحده بل كذلك على الملياردير اليهودي جورج سوروس ففاحت منها رائحة كراهية اليهود. وذاك مظهر واحد فقط من مسلسل انحطاط أمريكي تتعاقب حلقاته، والمسكوت عنه من وقائعها ليس أدهى فقط، بل أحطّ وأدنى.