تستعدّ تركيا، بحسب المعطيات المتوفّرة، لاتخاذ خطوتها الأخيرة في مسيرة إعادة الاستدارة في سياساتها الخارجية، والتي بدأتها مع روسيا، بعد الانقلاب الفاشل في يوليو/ تموز 2016، ثم اتسعت، مع تغيّر الإدارة في واشنطن عام 2021، لتشمل دول الخليج العربية، ومصر، وإسرائيل، قبل أن تعود علاقاتها وتنتكس مع الأخيرة بسبب الحرب على غزّة. ومع اتخاذ قطار التطبيع التركي وجهته نحو دمشق، لم يعُد السؤال مرتبطاً باحتمالية حصول ذلك من عدمه، بل بتوقيت الوصول والترتيبات، والمدى الذي يمكن أن تذهب إليه مسيرة التطبيع، والتحدّيات التي تعترضها، ومكاسب كل طرف.
أسباب مختلفة دعت الرئيس أردوغان، الذي يمثل مدرسة “موغلة” في البراغماتية السياسية، إلى تغيير سياساته السورية مرّة أخرى، أكثرها داخلي وبعضها إقليمي ودولي. داخلياً، ينشغل أردوغان بعدّة هواجس كبرى، أهمّها قدرته، وحزبه، على الاستمرار في الحكم بعد صدمة الانتخابات البلدية، والتي لم تقتصر خسارة حزب العدالة والتنمية فيها على المدن الكوزموبوليتانية (إسطنبول وأنقرة اللتين كان خسرهما أصلاً في انتخابات 2019)، بل وصلت إلى معاقله التقليدية في الأناضول. ويمكن أن ندرك أهمية ذلك، فقط إذا تذكّرنا أن الحزب صعد إلى حكم تركيا من خلال البلديات. ترتبط بذلك التحوّل في مزاج الناخب التركي أزمتان رئيستان: الأزمة الاقتصادية التي تضرب تركيا، منذ تفشّي وباء كورونا، وتتمثل خصوصاً في انفلات التضخّم، وانهيار سعر العملة. وأزمة اللاجئين السوريين الذين يجري استغلالهم في حسابات سياسية تركية داخلية، وتحميلهم، بغير وجه حقّ، مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية. يضاف إلى ذلك طبعاً هاجس القضية الكردية ومخاوف أنقرة من احتمال نشوء كيان كردي مدعوم أميركياً على حدودها الجنوبية.
ورغم أن مفاتيح حل التحدّيات الثلاثة التي تواجهها حكومة “العدالة والتنمية” (الأزمة الاقتصادية، وأزمة اللاجئين، والمسألة الكردية) داخلية، إلا أن الرئيس أروغان ينشدها في الخارج، عبر إعادة النظر في سياساته السورية، آملًا أن يسمح التطبيع مع دمشق بفتح خطوط التجارة البرّية المغلقة مع دول الخليج العربية منذ نهاية عام 2011، ما ينشّط الاقتصاد ويخفّف من تكاليف النقل والشحن والتأمين التي ترتفع باطّراد مع تنامي التوترات السياسية في المنطقة. ويسهم التطبيع مع دمشق أيضاً، بحسب أردوغان، في معالجة أزمة اللاجئين، حيث تأمل أنقرة أن يساعد اتفاقٌ مع النظام السوري في عودة الجزء الأكبر من هؤلاء. وهنا تطمح تركيا، باعتباره مكسباً فرعياً، أن يكون لها حصّة في عملية إعادة الإعمار التي تتطلبها عودة اللاجئين. تتطلع تركيا أيضاً إلى تفاهم مع النظام في دمشق، لإنهاء احتمالية نشوء كيان كردي يتمتّع، في الحد الأدنى، بحكم ذاتي في شمال شرق سورية، وقد يصل الطموح حتى إلى الانفصال مستقبلاً، وهو ما تريد تركيا منعه بأي ثمن.
يأمل النظام السوري، من جهته، في استخدام التطبيع مع تركيا أداة ضغط لإنهاء رهان الأكراد على واشنطن، ودفعهم إلى العودة إليه بشروطه. كما يأمل في أن يسمح الانفتاح على تركيا في تحسين أوضاعه الاقتصادية الصعبة، وفي تشجيع دول أخرى على أن تحذو حذو تركيا، لكن الجائزة الكبرى التي يتوقّعها النظام من التطبيع مع أنقرة فتتمثل في وقف دعمها المعارضة السورية، بشقّيها السياسي والمسلح.
ويشكل العامل الإقليمي والدولي أيضاً عامل دفع إضافي باتجاه تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق. وبغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية (هاريس أو ترامب) فالأكيد أن طاقم إدارة بايدن لن يكون جزءاً من المرحلة المقبلة، في وقتٍ تتجه فيه المنطقة نحو ترتيبات إقليمية جديدة، بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة، والجميع يريد أن يحجز موقعه فيها. يبقى أن التحدّيات التي تواجه التطبيع كبيرة جدّاً، أبرزها واقع أنه من دون حل سياسي لن يكون هناك أمن ولا رخاء اقتصادي، ولا حل لقضية اللاجئين، أو المسألة الكردية، ولا استعادة للسيادة على كل شبر من الأرض السورية، ولا خروج للقوات والتنظيمات والمليشيات الأجنبية، حتى لو قدّمت تركيا “رأس” المعارضة السورية، ثمناً للتطبيع. لذلك يمثل الحل السياسي العقدة التي لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات لإنهاء الأزمة مع سورية وفيها، وهذا معطى موضوعي لا يمكن تجاوزه.