بغض النظر عن كيفية رد “حزب الله” على الضربة الأخيرة التي وجّهتها إسرائيل إلى إحدى القيادات، سيؤدي يأسه من إمكانية وقف سلسلة الخسارات إلى إنشاء فرص دبلوماسية كبيرة للولايات المتحدة وشركائها – إذا تم ذلك بالشكل الصحيح.
شكلت الضربة التي استهدفت هذا الأسبوع فؤاد شكر صفعة كبيرة بالنسبة لـ “حزب الله” و “الحرس الثوري الإيراني”. فلم يخسرا القائد الأكثر قيمة في الميليشيا في المرحلة الحالية من التصعيد مع إسرائيل فحسب، بل أكدا أيضاً مدى تَعرّض الحزب لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي. وبينما كان “حزب الله” لا يزال يبحث عن جثة شكر بين الأنقاض، قُتل القائد السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في هجومٍ في طهران، مما زاد الوضع سوءاً كما زاد من الضغوط التي تحث على الرد.
إلا أن نقاط ضعف “حزب الله” من الناحية الاستخباراتية وجرأة إسرائيل المتزايدة قد تُحدث أيضاً تأثيراً معاكساً، إذ قد تدفع بالحزب وحلفائه إلى التفكير مرتين في ما إذا كانوا سيلجأون إلى التصعيد وكيف سيتم ذلك. ينبغي أن تشكل هذه المعضلة – التي كانت واضحة في الخطاب الذي ألقاه زعيم “حزب الله” حسن نصر الله في الأول من آب/أغسطس – أساساً للرد الأمريكي إزاء الأزمة الأخيرة التي تلوح في الأفق بين إسرائيل و”المحور” الإيراني.
ماذا قال نصر الله؟
عندما ألقى نصر الله خطاباً متلفزاً في مراسم تشييع شكر في بيروت، وعد بتنفيذ رد عسكري من نوعٍ ما، لكنه لم يذكر بأنه سيتم تنسيقه مع جهات فاعلة أخرى مثل “الحرس الثوري الإيراني” أو الحوثيين في اليمن. وفي الواقع، بدا وكأنه تجنّب عمداً ذكر هذا الرابط أو حتى ذكر اغتيال هنية والرد الإيراني المحتمل. ومع أنه تحدّث عن الدخول في “مرحلة جديدة من المعركة مفتوحة في كل الجبهات”، أوضح أيضاً أن القرار بشأن كيفية الرد لم يُتخذ بعد، فقال: “نحن نقاتل إسرائيل لكن بحكمة وغضب. وإسرائيل لا تعرف أين هي اليوم ومن أين سوف يأتيها الرد… نحن نبحث عن رد حقيقي ومدروس جداً”.
لعل الأمر الأكثر أهمية هو أن نصر الله أشار إلى أن “حزب الله” سيعود إلى “قواعد الاشتباك” المعتادة على طول الحدود مع إسرائيل في اليوم التالي، مؤكداً أن اشتباكاته التي دامت شهوراً لن تتوقف حتى يتم التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار مع “حماس” في قطاع غزة. وبهذا المعنى، أعطى نصر الله المجتمع الدولي سبباً واضحاً يدفعه إلى مضاعفة جهوده للتوصل إلى اتفاقٍ بشأن الرهائن في غزة. فهل يعني ذلك أنه تم ردع “حزب الله”، أم أن الرد ما زال قادماً؟ تتعدد العوامل والحسابات التي ستحدد الإجابة على هذا السؤال.
سيناريوهات الرد
في الأيام التي سبقت الضربة الإسرائيلية، كان من البديهي أن ينكر “حزب الله” زوراً المسؤولية عن الهجوم الصاروخي المأساوي الذي تم شنه في 27 تموز/يوليو على مجدل شمس، على أمل تفادي الرد العسكري شبه المؤكد على قتل المدنيين. وعندما بدا أن هذه الحيلة محكومٌ عليها بالفشل، حث “حزب الله” وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب على إخبار المحاورين في 28 تموز/يوليو بأن الحزب مستعد لسحب تشكيلاته العسكرية إلى شمال نهر الليطاني. وفي السابق، كان “حزب الله” قد رفض التفاوض بشأن هذه النقطة – وهي مطلب أساسي في “قرار مجلس الأمن رقم 1701” – أو مناقشة أي قضايا أخرى تتعلق بترسيم الحدود ما لم يتم التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة.
وقبل وقتٍ قصيرٍ من استهداف شكر، تغيرت مجدداً رسائل “حزب الله”، إذ حدد صيغة لكيفية رده على هجمات محددة ورسم بعض الخطوط الحمراء لإسرائيل. وعلى وجه التحديد، حذّر الحزب من أن أي ضربة تلحق الضرر بالمدنيين اللبنانيين ستقابلها ضربة ضد المدنيين الإسرائيليين؛ وأن أي ضربة على بيروت ستقابلها ضربة ضد تل أبيب؛ وأن أي ضربة ضد معقل الحزب في الضاحية ستقابلها ضربة ضد مدينة إسرائيلية؛ وأن أي ضربة على مطار بيروت ستقابلها ضربة على مطار بن غوريون في إسرائيل. وأضاف الحزب أن أي هجمات ضد أي أهداف عسكرية ستدفع “حزب الله” إلى مهاجمة أهداف عسكرية إسرائيلية.
قد يفترض المرء أن هذه التحذيرات كانت تهدف إلى توجيه رسائل ردعٍ أكثر من وضع مخططٍ للاستراتيجية العسكرية التي سينفذها “حزب الله” بالفعل. لكن إلى جانب خطاب نصر الله، فإنها تشير إلى احتمال حدوث سيناريوهين.
السيناريو الأول هو الرد المتأخر، أي أن “حزب الله” سيضيف مقتل شكر إلى القائمة الطويلة من الهجمات الإسرائيلية التي وعد بالرد عليها في نهاية المطاف. وبدلاً من ذلك، قد يقرر الحزب التحرك على الفور من خلال ضرب هدف عسكري أعمق داخل إسرائيل بدلاً من حصر هجماته في الشمال أو مرتفعات الجولان. وسيسمح هذا الخيار لـ”حزب الله” بتسجيل رد واضح على ضربة بيروت من دون تجاوز العتبة التي يعتقد أنها ستؤدي إلى نشوب حرب شاملة. ويتمثل أحد الخيارات ذات الصلة في شن هجماتٍ تشمل استخدام أسلحةٍ أكثر تقدماً. على سبيل المثال، كان شكر يشرف على برنامج الصواريخ الموجهة بدقة الخاص بـ “الحرس الثوري الإيراني”، لذلك قد يقرر “حزب الله” وطهران استخدام مثل هذه الذخائر ضد أهداف عسكرية إسرائيلية للمرة الأولى.
أياً كان الخيار الذي سيلجأ إليه “حزب الله”، إلّا أنه لم يحدث أي تغيير هائل في حساباته. فما زال الحزب غير قادر على تحمّل تكاليف الحرب الشاملة مع إسرائيل – إذ كان نصر الله يصرّح مراراً وتكراراً منذ العام الماضي أن حرب غزة ليست حربهم. علاوةً على ذلك، ما زالت طهران ترغب في الحفاظ على الأسلحة المتقدمة التي يملكها “حزب الله” وعلى أهم أصوله العسكرية كبوليصة تأمين. فما دام النظام الإيراني وبرنامجه النووي غير مهددين بشكلٍ مباشرٍ، لن يُطلَب من الحزب التضحية بأهم أصوله في المواجهة مع إسرائيل. وقد كان فقدان شكر ومئات القادة والمقاتلين الآخرين بسبب الضربات الإسرائيلية بمثابة اختبارٍ قاسٍ لـ”حزب الله” في الأشهر القليلة الماضية، لكن الحرب الشاملة في لبنان ستزيد الأضرار بشكلٍ كبير. فمن دون شكر وغيره من المخططين العسكريين الذين قُتلوا، قد لا يتمكن الحزب حتى من تحقيق “النصر” الدفاعي الذي حققه في خلال الحرب السابقة في عام 2006. وإذا نجا بالصدفة من الحرب التالية، فسيخسر كل أسلحته المتقدمة وسيضطر إلى إعادة بناء ترسانته الضخمة في بيئة اقتصادية ومالية أسوأ بكثير من عام 2006.
مع أن شكر شكّل خسارةً كبيرةً – وهي بالتأكيد أكبر من خسارة هنية – يبدو أن “حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني” يعتبران أنها تكلفة يمكن تحمّلها مقابل مواصلة الضغط على إسرائيل. فقد تكبد كلٌ منهما خسائر بارزة في الماضي من دون تنفيذ أي انتقام عسكري كبير ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل، بما في ذلك الأمين العام السابق لـ”حزب الله” عباس الموسوي، والقائدان العسكريان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، وقائد “فيلق القدس” التابع “للحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني. لكن تجدر الإشارة إلى أن كلا الطرفين رد في النهاية على بعض هذه الضربات التي استهدفت القيادات رداً فتاكاً. على سبيل المثال، تم توجيه ضربة صاروخية باليستية ضد القوات الأمريكية في العراق، وتنفيذ تفجير إرهابي أسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا في الأرجنتين.
وبصرف النظر عن الطريقة التي سيصمم بها “حزب الله” رده المحدد، من الواضح أن الحزب يئس من محاولة وقف الخسائر المتزايدة التي تكبدها خلال حرب غزة. وسيؤدي هذا اليأس إلى إنشاء فرص دبلوماسية كبيرة للولايات المتحدة وشركائها – إذا تم ذلك على النحو الصحيح.
هل من فرصة لانتهاج المسار الدبلوماسي؟
حين أشار “حزب الله” إلى استعداده للانسحاب إلى شمال الليطاني، كان على الأرجح يدّعي ذلك – فلا يمكن فعلياً تنفيذ “القرار 1701” من دون وجود آلية إنفاذ صالحة. لكن الرسالة تشير إلى أن الحزب سيتنازل إذا خشي أن يتعرض للمزيد من الضغوط الجادة.
وعلى المدى القريب، يبدو أن الرد العسكري المحدود على إسرائيل أمر محتمل – وهو ردٌ يأمل “حزب الله” وطهران أن تتسامح معه القدس. لكن بعد ذلك، قد ينقضي هذا التصعيد الأخير في الصراع، لأن الحزب أصبح يدرك الآن أن القادة الإسرائيليين مستعدون لتجاوز خطوطه الحمراء. وهذه الفترة من الحذر هي التي قد تؤدي فيها الدبلوماسية دوراً مهماً:
- يجب أن تحذّر الولايات المتحدة “حزب الله” من أن إسرائيل مستعدة لضرب المزيد من الأهداف البارزة إذا لم يوافق على التوصل قريباً إلى حل دبلوماسي. ومن المهم أن توضح واشنطن ضرورة التوصل إلى اتفاقٍ في لبنان بصرف النظر عما يحدث في مفاوضات غزة التي أرجئت مراراً وتكراراً.
- يعتقد مسؤولو “حزب الله” أن الولايات المتحدة وإسرائيل تنسقان أعمالهما العسكرية الأخيرة إلى حدٍ ما – إذ أشارت التقارير إلى أن القوات الأمريكية ضربت أهدافاً تابعة لميليشياتٍ مدعومةٍ من إيران في العراق مرتين على الأقل بعد تنفيذ الهجومين على شكر وهنية، وقد طمأنت إدارة بايدن إسرائيل علناً بأنها ستتلقى الدعم الأمريكي إذا تعرضت للهجوم. فربما يكون هذا التنسيق الذي تمت ملاحظته هو الرادع الأقوى الذي تمتلكه واشنطن ضد تصعيد “حزب الله”، لذا عليها أن تعزز هذه النظرة قدر الإمكان، وذلك على الأقل إلى أن يتم التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار.
- أرسلت البحرية الأمريكية مؤخراً عدة سفن حربية إلى مناطق بالقرب من المياه اللبنانية، ويجب أن يبقى بعضها هناك حتى لو مرت هذه الفترة من التوتر. فعمليات النشر المشابهة هي بمثابة تعبير رمزي قوي جداً لـ “حزب الله” عن “الرفض”.
- من أجل زيادة مخاوف “حزب الله” بشأن التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل، يتعين على واشنطن أن تحاول تجنيد بعض الشركاء مثل فرنسا والمملكة العربية السعودية بهدف تعزيز التأثير الرادع. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تستخدم باريس نفوذها في بيروت من أجل زيادة الضغط على حلفاء “حزب الله” المحليين من خلال الدبلوماسية الصارمة والعقوبات. ومع أن السعوديين انسحبوا إلى حدٍ كبيرٍ من لبنان منذ عدة سنوات، فقد يقتنعون بالعودة إلى الساحة إذا ذكّرتهم واشنطن بأن “حزب الله” كان يملأ الفراغ بواسطة حلفائه السنّة وبعض الجهات الفاعلة السيئة مثل “حماس”.
- إذا بدأت المفاوضات مع “حزب الله”، يجب أن تزيد الولايات المتحدة الضغط على نقاط الضعف المتعددة التي يعاني منها الحزب، مثل تعرّضه للاستخبارات الإسرائيلية؛ وخسارته الكبيرة للقادة والبنى التحتية ومرافق الأسلحة؛ والضغوط الاجتماعية التي يواجهها من السكان النازحين من جنوب لبنان. وبشكلٍ خاص، يتعين على واشنطن فرض المزيد من العقوبات على الحلفاء السياسيين اللبنانيين لـ”حزب الله”، ودفع بيروت إلى ملء منصب الرئاسة الشاغر منذ فترة طويلة بشخصٍ مستعدٍ فعلياً لمساعدة البلاد على استعادة سيادتها من إيران، والأهم من ذلك، ضمان أن “البنك المركزي” والمؤسسات المالية اللبنانية الأخرى تساعد على عرقلة التدفق النقدي الخاص بـ”حزب الله”.
- من أجل ضمان ألا يؤدي وقف إطلاق النار ببساطة إلى تمكين “حزب الله” من تجديد قواته القتالية وبنيته القيادية، يجب أن تعالج واشنطن وشركاؤها مسألة الطرق ونقاط الدخول التي يستخدمها الحزب لتهريب الأسلحة. ويعني ذلك فرض تطبيق “قرار مجلس الأمن رقم 1559″، وترسيم الحدود مع سوريا، ومراقبة الموانئ البحرية ومطار بيروت. علاوةً على ذلك، من الضروري ملء الفراغ الرئاسي لكي تتمكن بيروت من تشكيل الحكومة الفاعلة اللازمة للإشراف على كل ما سبق.
وإذا نجحت الدبلوماسية في التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار في لبنان، لا ينبغي أن يتوقف المسؤولون عند هذا الحد. بل يجب تطوير خيارات متعلقة بالسياسات على المدى الأطول ومتابعتها من أجل استعادة سيادة لبنان في قرارات الحرب والسلم، ومنع “حزب الله” من استعادة قوته وثقته. ولا يكفي مجرد تنفيذ “القرار رقم 1701” – بل يجب أن تتبعه ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية المستمرة على “حزب الله” وحلفائه السياسيين اللبنانيين وشركائه الإقليميين.