بنظرة سريعة إلي خريطة النزاعات وبؤر التوتر في الشرق الأوسط ومحيطه، يمكن بسهولة ملاحظة أن الإقليم صار أقرب إلي ساحة حرب واسعة تتعدد فيها ميادين القتال، وتتباين حدة المعارك من نقطة إلي أخري. وتتخلل تلك الحروب مساحات بينية من الفوضي المجتمعية والاضطرابات السياسية، تنذر بتحول تلك المساحات بدورها في أية لحظة إلي ميادين اقتتال جديدة، خاصة أنها، تقريبا، متواصلة جغرافيا مع نقاط الحروب والمواجهات المسلحة.
فساحة الحرب في العراق وسوريا تمثل قوسا واصلا بين البحرين ولبنان، حيث الاستقرار السياسي الحرج علي خلفية طائفية. وبين مصر وتونس، حيث اضطرابات الأمن والتنافس علي السلطة والنفوذ، تجري في ليبيا حرب أهلية ميليشياوية. أما السودان وجنوب السودان، فالمواجهة المسلحة بينهما لم تنته تماما، في حين أن كلا منهما منشغل بترتيب الأوضاع الداخلية سياسيا عسكريا. أما الحرب الإقليمية الدائرة في اليمن، فمردودها في جوارها المباشر الخليجي (خصوصا السعودية) يتجاوز الأعباء العسكرية المباشرة.
في مشهد إقليمي هكذا، يصبح التداخل، بل الارتباط، بين الملفات والقضايا الداخلية والإقليمية أمرا منطقيا، من ناحية، بسبب انخراط دول الجوار المباشر في كل أزمة أو نزاع، ومن ناحية أخري لارتباط معظم تلك الأزمات والنزاعات بعوامل ومسببات متشابهة، تكاد تشترك فيها كل الدول، سواء التي تشهد حربا (وربما انهيار الدولة)، أو التي تعاني عدم استقرار (فشل الدولة). لذا، فإن التحرك الجماعي لمواجهة تلك الأوضاع المتفجرة ضرورة تفرضها المصلحة، ومقتضيات أمن الدول المعنية، ولا يمثل بالضرورة نزوعا إلي التدخل، أو مد النفوذ، حيث لدي كل من دول المنطقة من التحديات والمعضلات الداخلية ما يشغلها عن التطلع إلي الخارج سوي للحد من المخاطر والتهديدات الوافدة.
في هذا السياق، جاء التدخل العسكري السعودي – العربي في اليمن لمواجهة انقلاب الأوضاع هناك، والاستيلاء علي مؤسسات الدولة بواسطة قوة اجتماعية سياسية عسكرية واحدة (الحوثيون). وفي السياق ذاته، جاءت ضربات جوية مصرية لأهداف منتقاة في ليبيا درءا لما عدّته القاهرة تهديدا مباشرا من حدوها الغربية، ثم ما يتردد عن ترتيبات محتملة لتدخل عسكري عربي في سوريا للاضطلاع بمهمة العمليات البرية في مواجهة “الدولة الإسلامية” تحت غطاء جوي دولي يضم روسيا، وفرنسا، وبريطانيا، ودولا أخري.
ويسترعي ذلك الانتباه إلي أن المبادرة بالتحرك في مواجهة المعضلات الداخلية والإقليمية جاءت أساسا من خارج المنطقة بقرار من القوي الكبري في العالم، التي تتجه حثيثا إلي تبني العمل المسلح وسيلة رئيسية للتعاطي مع المشكلات وحالات الاضطراب التي تسود الشرق الأوسط، خصوصا تلك التي تصل إلي حد المواجهة المسلحة، وتنذر بتهديدات مباشرة لأمن تلك القوي الخارجية واستقرارها. وهي ظاهرة جديدة تستحق التوقف والتناول بتحليل دقيق لدوافعها، وكامل أبعادها، بما في ذلك الأبعاد الداخلية لدي مجتمعات تلك الدول الأجنبية وحكوماتها، خصوصا اتجاهات الرأي العام والقوي المجتمعية، التي قد تمثل قوة دافعة ومحفزا لسياسة تدخلية، وتحرك عسكري يخدم نفوذ الدولة واستعادتها الهيبة والمكانة، كما في حالة التدخل الروسي في سوريا، أو قد تكون مصدر تقييد وترشيد للقرار الحكومي في مواجهة التحدي الخارجي، كما في حالة التعاطي الأوروبي مع تدفق اللاجئين السوريين. بينما، في حالة ثالثة، قد تكون المعطيات الداخلية محددا لسياسة انعزالية، أو علي الأقل “رد فعلية”، وليست مبادئة، وهو وضع واشنطن التي تستعد لعام انتخابات رئاسية، تتراجع فيه أولويات الخارج، وتتقلص خلاله قدرة الإدارة علي اتخاذ قرارات خارجية جريئة. في المحصلة، صار استخدام القوة المسلحة بشكل مباشر، وليس فقط بواسطة وكلاء، نمطا غالبا علي معالجة القوي الكبري في العالم للقضايا والأزمات في الشرق الأوسط وجواره. ثم تاليا، جاء التوجه ذاته من دول المنطقة.
ويلاحظ تزامن تلك الظاهرة مع التحولات الداخلية التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، مما يعكس ارتباطها بمحاولة القوي الكبري في العالم، ثم لاحقا دول المنطقة ذاتها، مواجهة تداعيات الأزمات الداخلية التي صاحبت وترتبت علي موجة الثورات والاحتجاجات الشعبية التي ضربت المنطقة -ولا تزال- منذ خمس سنوات. إذ تري الدول الكبري أنها “اضطرت” إلي تحريك أساطيلها نحو سواحل المنطقة، وتحليق طائراتها في سماوات دول “الربيع العربي”، بغرض تطويق النتائج السلبية ” الإرهابية” التي نجمت عن تحول الثورات والاحتجاجات إلي مواجهات مسلحة جذبت آلافا من “الإرهابيين”، ودفعت عشرات الآلاف من المدنيين إلي النزوح أو اللجوء هربا من تلك المواجهات والحروب، بالإضافة إلي آلاف آخرين لا تعاني بلدانهم حروبا مسلحة، ولم تنهر الدولة فيها، لكنها فاشلة بما يكفي لدفع هؤلاء إلي الهجرة غير المشروعة، بحثا عن حد أدني من متطلبات الحياة الآدمية. حتي هؤلاء، اتخذت بعض الدول الأوروبية قرارا بتشكيل قوة عسكرية بحرية للحد من تدفقهم إليها عبر مياه المتوسط.
إذن، صار اللجوء إلي القوة الخشنة هو الخيار الأول لمواجهة التهديدات والتحديات المترتبة علي أوضاع داخلية، ومشكلات إقليمية. وهو اقتراب لا يحل المشكلات أو يحسمها، بل يبتعد بها تماما عن معالجة الجذور والأسباب الحقيقية لها، فيواجه فقط المظاهر والأعراض. مثلا، لم تسع الدول المعنية بمواجهة “داعش”، أو غيره من التنظيمات الإسلامية المتهمة بالإرهاب، إلي إقامة حوارات أو قنوات تواصل مع تلك التنظيمات في بداياتها. وركزت بدلا من ذلك علي اختراقها أمنيا بزرع عملاء، أو اختلاق تنظيمات موازية. ثم لم تقم تلك الدول، التي تباشر حاليا عمليات عسكرية ضد تلك التنظيمات، بجهود حقيقية لتجفيف منابعها بملاحقة مصادر التمويل، وإغلاق منافذ التسليح ومعابره، وتضييق سبل انضمام الأفراد إليها.
ينطبق المنطق ذاته علي مواجهة تداعيات “الربيع العربي”. فالمواجهة المطلوبة لم تكن مع القوي الساعية إلي التغيير، ولا مع التظاهرات الشعبية السلمية التي قوبلت بالرصاص من اللحظة الأولي، وإنما مع الحكومات، والمؤسسات الأمنية، والنظم الحاكمة التي، بدلا من تلبية مطالب الشعوب، وإدراك حتمية التغيير والتطوير، أمعنت في استخدام أدواتها السلطوية بحق أجيال جديدة، وشرائح مجتمعية غير تقليدية، فكان الصدام، وكانت الفوضي.
إضافة إلي الخلل المنطقي في ذلك الاقتراب المغلوط، فإن النتائج المترتبة عليه ستكون أشد خطورة من الأسباب المزعومة للجوء إليه. فاللجوء إلي القوة -بغض النظر عن المبررات- ينذر دائما بتحول العلاقة بين شعوب المنطقة وتلك القوي إلي عداء سيستغرق زمنا حتي تزول آثاره، وستعود الصورة الذهنية للاستعمار التقليدي للهيمنة علي العقل الجمعي لشعوب المنطقة. وهو ما ينطبق كذلك علي حكومات المنطقة التي تلجأ إلي الأسلوب ذاته، سواء بالتدخل العسكري في دول مجاورة، أو باستخدام القوة المسلحة، والأدوات الأمنية لمواجهة المطالب الشعبية الداخلية. فالنتيجة الوحيدة لذلك هي مزيد من الكراهية والسخط الشعبي علي نظم يفتقر معظمها إلي شرعية الإنجاز، فضلا عن شرعية الاختيار الشعبي. وبدلا من تصحيح أخطاء ما قبل الثورات، تجنبا لتكرارها، تكرر تلك النظم أخطاءها.
سامح راشد
مجلة السياسة الدولية