تمارس الأنظمة، أو الحكومات المحلية، في العراق وسورية، وبدعم إيراني صريح، سياسة التطهير العرقي المنظّم، بذريعة محاربة الإرهاب، أو التمرد، وتأخذ هذه السياسة أنماطاً تطبيقية متعددة، من التهجير الطائفي وطرد السكان بشكل صريح أو عبر منعهم من العودة إلى مناطقهم بعد انتهاء العمليات العسكرية فيها. ويجري في حالات كثيرة، إحلال آخرين مكانهم، بما يشبه عمليات الاستيطان المعروفة في النمط الاستعماري القديم، أو كما تطبقه إسرائيل، وقد انتهى الأمر بالنظام السوري إلى إجراء مناقلات للسكان بالقوة، وعلى أساس طائفي، عبر نقلهم من المناطق الواقعة تحت سيطرته، والتي يقوم بتصميمها كدولة مستقبلية له، إلى المناطق التي تقع خارج سيطرته.
ويهدد استمرار هذه العمليات بالوتيرة والمنهجية نفسيهما بإمكانية تغيير هوية سورية والعراق في زمن ليس ببعيد، خصوصاً وأنه يترافق مع عمليات هجرة خارجية واسعة (لجوء)، نتيجة أعمال العنف التي تمارس على هذه البيئات، وتحويل أماكن استقرارها السابقة إلى أرض غير قابلة للحياة. وعلى الرغم من اطمئنان المراقبين بالنسبة لأوضاع سورية، واعتقادهم استحالة قدرة نظام الأسد وإيران على تفريغ سورية من المكون العربي السني، وذلك بالنظر لنسبته الأكثرية، غير أن احتمالات حصول هذا الأمر أصبحت ممكنة، بالنظر إلى: عمليات العنف الفالتة من كل عقال، وعدم وجود حدود لاستخدامها ضد المدنيين. حالة الإنهاك التي وصل لها المجتمع السوري، بعد خمس سنوات من القتل والاعتقال والإخفاء القسري. حصر الكتلة السكانية الكبيرة من العرب والسنّة الباقية في سورية ضمن مستطيلٍ يمتد من دمشق إلى حماة، وهي كتلة مجرّدة من القوة، ومن السهل التنكيل بها في مرحلة لاحقة، إذا استطاع نظام الأسد التخلص من خطر الثوار.
ولعل ما يعزّز من فرضية استمرار عمليات التطهير العرقي الفشل في الوصول إلى حل سياسي في المدى المنظور، حيث يرفض وكلاء إيران في العراق وسورية الاعتراف بالمكوّن الآخر، ومشاركته في الحكم في العراق، ورفض تقديم تنازلات ذات قيمة في سورية، بما يعني بقاء الهياكل السياسية على حالها، دينامية مولدة للعنف الطائفي تجاه الطرف الآخر، وقد بدا الأمر في العراق جلياً، حتى في رفض مطالب الإصلاح التي طالب بها الشارع العراقي، خوفاً من تأثيرها على مراكز القوى وقنوات توزيع الثروة، بما يؤدي إلى تغيير في أوضاع النخبة القريبة من إيران، وكذلك الأمر في سورية، إذ يصر نظام الأسد على حصرية احتكاره صناعة الدستور والبرلمان والحكومة، لضمانها بنى دائمة لإنتاج سيطرته على المجتمع السوري.
وأمام هذه الوضعية وحالة الانغلاق السياسي السائدة، من المرجح استمرار الصراع فترات أطول، خصوصاً وأن الطرف الآخر يستثمر سيطرته على الدولة والمؤسسات والموارد، وكذلك الاعتراف الدولي في حربه على المكوّن العربي السنّي، من دون أن يحظى هذا المكوّن بالقوة اللازمة التي تحقّق له قدراً من التوازن، في إطار حربٍ أهليةٍ، يجري خوضها من الطرف الآخر. والمفارقة هنا أن أدوات إيران يتمسكون بالدولة، ويتظللون بشعاراتها، حين الاستفادة من مواردها، لكنهم يصرّون على توريط هذه الدولة في الحرب على المكوّن الآخر إلى أبعد مدى.
في ظل هذا الوضع، جاء التدخل الروسي عنصراً مساعداً في عملية التطهير العرقي ضد
المكون العربي السنّي في سورية والعراق، ذلك أن هذا التدخل يحصل، بعد سنوات طويلة من حربٍ منظمةٍ، خاضتها ايران وأذرعها ضد هذا المكون، وجرى استخدام أقصى درجات العنف فيها. صحيح أنه جرى امتصاص صدمات الهجوم الإيراني مرّات عديدة، لكن هذا الهجوم أنتج حالة من تراكم الإنهاك لدى المجتمعات المحلية في سورية والعراق، على كل المستويات المادية والبشرية والنفسية، وبعد أن وصلت هذه المجتمعات إلى حالةٍ من التكيّف مع أقسى الظروف الحياتية، واستطاعت تحقيق توازن قوى، عبر ما أفرزته من تشكيلاتٍ عسكريةٍ للدفاع عن نفسها، يأتي التدخل الروسي لضرب ذلك كله. في المقابل، لا يزال لدى الروس الوقت الكافي قبل أن يشعروا بالاستنزاف والتعب، وهذا الوقت كافٍ أيضاً لإحداث أضرار خطيرة في البيئات الاجتماعية العربية في سورية والعراق التي من المتوقّع أن يتمدّد لها التدخل الروسي.
بالإضافة إلى ذلك، تكمن خطورة التدخل الروسي في اعتماده على الأذرع الإيرانية في تنفيذ استراتيجيته لتوسيع نفوذه في سورية، وهذا يعني مشاركة هذه الأذرع للمفاهيم التشغيلية المتطورة والمهارات المتقدمة، من ناحية التخطيط العسكري، واكتسابها مهارات احترافية في الميدان، بما يساعد على تطوير مهاراتهم التكتيكية، خصوصاً في حروب المدن التي تملك روسيا خبرة كبيرة فيها، جرّاء حربها في الشيشان، ولا شك أن هذه الأذرع ستقدم على تصريف كل تلك المكاسب، وترجمتها في حربها الأساسية المتمثلّة في التطهير العرقي للعرب السنّة في المشرق.
من المعلوم أن التطرّف الإيراني في سياسة التطهير العرقي استولد مقابلاً سنّياً متطرفاً تمثّل في تنظيم داعش بدرجة كبيرة، غير أن التطوّرات اللاحقة والمتمثّلة بعملية انسداد الأفق السياسي والتدخل الروسي من شأنها أن تشكّل ديناميةً، تولّد ظهور مثل هذه النسخ المتطرّفة، وخصوصاً في ظل سياسة روسيا القائمة على ضرب المكوّنات المعتدلة في الثورة السورية، وإضعافها لصالح التنظيمات المتشدّدة. وبذلك تؤسس لإيجاد إشكالية مستقبلية للمجتمعات المحلية العربية التي لا يمكنها التعايش مع هذه المنظمات المتطرفة، لتصبح هذه أحد العناصر التشغيلية في منظومة التطهير الديمغرافي التي صمّمتها إيران في سورية والعراق.
وتتمثل خطورة هذا الأمر في سياسات روسيا وإيران التي تتجه بقوّة صوب تقسيم سورية والعراق، حيث تتوجّه مجهوداتهما صوب اقتطاع المناطق المفيدة من هذين البلدين، وإعلانهما مناطق طائفية خالصة، بما يعني قذف المكون العربي السني إلى المناطق التي تقع خارج سيطرتهما، حيث استحالة الحياة الاجتماعية والتعايش مع التنظيمات المتطرّفة، فضلا عن عدم توفر أسباب الحياة، نتيجة تدمير البنى التحتية، وصعوبة إصلاحها من الموارد التي تتوفّر عليها تلك المناطق خارج الإطار المفيد المرسوم.
ما العمل؟ كيف يمكن تعطيل آليات الاقتلاع الجهنمية في المشرق العربي؟
يتوجب تغيير الرهانات السابقة، ذلك أن الاستمرار عند قناعة أن إيران وروسيا سوف تُستنزفان رهان ساذج ومؤذٍ في الوقت نفسه، وإذا كانت احتمالية حصول هذا الاستنزاف في وقت ما، فالخوف أن يكون المشرق العربي قد استنزف سكانه، وإلى غير رجعة. ويتوجب تفعيل تحالف الدول الإسلامية وتطوير مهامه، بحيث تشمل، بالدرجة الأولى، سورية والعراق، بما أنهما تقعان في قلب الحدث، ولأهمية موقعهما في جيوبوليتيك العالم الإسلامي، وتأثيرهما على الأمن والاستقرار فيه. وكذلك يلزم الضغط على روسيا لإخراجها من دائرة العناصر المسبّبة لعملية التطهير الديمغرافي، وتحييد تأثيرها الى أبعد درجة. ومنح الشرعية الكاملة لجميع التشكيلات العسكرية العاملة في سورية والعراق، باستثناء داعش، واحتضانها ومنع استهدافها، واعتبارها تشكيلات لحماية المجتمعات المحلية، أنتجتها هذه المجتمعات، للدفاع عنها في مواجهة سياسات الاقتلاع الإيرانية، وحرب وكلائها على هذه المجتمعات.