الحِفاظ على النظام الآسيوي

الحِفاظ على النظام الآسيوي

صورة91

ليس طموح الصين لإعادة تشكيل النظام الآسيوي سراً. فمن مخطط “حزام واحد، طريق واحد” إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي يتخذ من بكين مقراً له، تعمل مبادرات صينية كبرى، تدريجياً ولكن بثبات، على دفع هدف الصين الاستراتيجي المتمثل في إعادة تشكيل آسيا على نحو يجعلها تتمحور حول الصين. وكما يدرك جيران الصين تمام الإدراك، فإن سعي الصين إلى فرض هيمنتها الإقليمية قد يكون ضاراً، بل وحتى خطيراً. ولكن القوى الإقليمية الأخرى لم تفعل شيئاً يُذكَر لوضع استراتيجية منسقة لإحباط مخططات الهيمنة الصينية.
من المؤكد أن قوى أخرى وضعت سياسات مهمة. فقد بدأت الولايات المتحدة في العام 2012 سياسة “المحور” الاستراتيجي نحو آسيا، والتي روجت لها كثيراً، عندما كشفت الهند أيضاً النقاب عن سياسة “العمل شرقاً”. وعلى نحو مماثل، حولت أستراليا تركيزها نحو منطقة المحيط الهندي، وتبنت اليابان نهجاً في السياسة الخارجية يتسم بالتوجه غرباً.
بيد أن العمل المنسق -أو حتى الاتفاق على أهداف سياسية مشتركة على نطاق عريض ــ ظل بعيد المنال. والواقع أن أحد العناصر الرئيسية في محور آسيا الأميركي، أو اتفاق الشراكة التجاري عبر المحيط الهادئ والذي يتألف من 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ، لا يستبعد الصين فحسب؛ بل إنه يترك أيضاً حلفاء مقربين من الولايات المتحدة مثل الهند وكوريا الجنوبية.
وهذه ليست المشكلة الوحيدة التي تعيب اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. فحتى بعد إتمام عملية التصديق المطولة على الاتفاق في الهيئات التشريعية الوطنية والبدء في تنفيذه، سوف يكون تأثيره تدريجياً ومتواضعا. ذلك أن ست دول أعضاء تتباهى بالفعل باتفاقيات ثنائية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وهذا يعني أن التأثير الأساسي الذي ستخلفه الشراكة عبر المحيط الهادئ سوف يتلخص في خلق منطقة تجارة حرة بين اليابان والولايات المتحدة، الدولتين اللتين تشكلان معاً نحو 80% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومن المرجح أن يفضي إتمام اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة الذي أطلقه اتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ــ والذي يضم الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا، ولكن ليس الولايات المتحدة ــ إلى إضعاف تأثير الشراكة عبر المحيط الهادئ بصورة أكبر.
ولنقارن بين هذا وبين مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، التي تهدف إلى تعزيز نفوذ الصين المالي على بلدان أخرى من خلال التجارة والاستثمار، في حين تعمل على تعديل الوضع الراهن البحري عن طريق ترسيخ الوجود الصيني في مناطق مثل المحيط الهندي. وإذا حقق الرئيس الصيني شي جين بينج ولو نصف ما يعتزم تحقيقه بهذه المبادرة، فسوف تتأثر الأوضاع الجيوسياسية الآسيوية بشكل عميق.
وفي هذا السياق، يصبح مستقبل آسيا غير مؤكد إلى حد كبير. ولضمان الاستقرار الجيوسياسي، لا بد أن تكون مصالح اللاعبين الرئيسيين في المنطقة متوازنة. ولكن مع تلهف الصين وحرصها على استعراض عضلاتها السياسية والمالية والعسكرية التي نجحت في تطويرها على مدار العقود القليلة الماضية، لن يكون التفاوض لإيجاد مثل هذا التوازن بالمهمة السهلة.
في ظل الوضع الراهن، لا تستطيع قوة منفردة -ولا حتى الولايات المتحدة نفسها- موازنة قوة الصين ونفوذها. ولتأمين توازن مستقر للقوى، فيتعين على الدول المتماثلة الفِكر أن تتوحد في دعم نظام إقليمي قائم على القواعد، وبالتالي اضطرار الصين إلى تبني المعايير الدولية، بما في ذلك تسوية النزاعات من خلال التفاوض السلمي، وليس الإرهاب العسكري أو القوة المطلقة. وفي غياب مثل هذا التعاون، لن تقيد طموحات الصين سوى العوامل المحلية، مثل الاقتصاد المتعثر، أو ارتفاع السخط الاجتماعي، أو الأزمة البيئية المتفاقمة، أو السياسة المعيبة.
ولكن، أي الدول ينبغي لها أن تتولى زمام المبادرة في تقييد طموحات الصين الرجعية؟ مع ارتباك الولايات المتحدة بفِعل تحديات استراتيجية أخرى -ناهيك عن الحملة الانتخابية الرئاسية المحلية- تصبح القوى الآسيوية الأخرى، وخاصة الهند الصاعدة اقتصادياً واليابان الأكثر حزماً من الناحية السياسية، أفضل المرشحين لهذه المهمة.
الواقع أن الهند واليابان من أقدم أصحاب المصلحة في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وكل منهما تؤكد في علاقاتها الدولية على القيم التي تعتنقها أميركا، مثل الحاجة إلى الحفاظ على توازن القوى المستقر، واحترام الوضع الإقليمي والبحري الراهن، وحماية حرية الملاحة. وعلاوة على ذلك، أظهر البلدان رغبتهما المشتركة في دعم النظام الآسيوي القائم.
في العام 2014، وأثناء زيارته لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في طوكيو، شن رئيس الوزراء الهندي، نارندرا مودي، هجوماً غير مباشر على النزعة التوسعية الصينية، فانتقد “العقلية التوسعية التي تعود إلى القرن الثامن عشر” والتي أصبحت واضحة “في كل مكان من حولنا”. وبالاستشهاد بالتعدي على أراضي دول أخرى، واقتحام مياهها، بل وحتى الاستيلاء على الأرض، لم يترك مودي مجالاً كبيراً للشك في هدف شكواه.
في الشهر الماضي، قطع آبي ومودي خطوة صغيرة في اتجاه التعاون. فمن خلال ندائهما المشترك الموجه إلى كل البلدان “لتجنب التصرفات الأحادية” في بحر الصين الجنوبي، انتقدا ضمناً بناء الصين لجزر اصطناعية هناك، وهو ما ينظران إليه عن حق باعتباره محاولة سافرة لتأمين نفوذها في المنازعات الإقليمية ــ واكتساب السيطرة على الممرات البحرية “ذات الأهمية الحاسمة” لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
من الواضح أن كلاً من اليابان والهند يدركان تمام الإدراك أن طموحات الصين من شأنها إذا تحققت أن تفضي إلى نشوء نظام إقليمي معاد لمصالحهما. ولكن برغم التزام البلدين بالحفاظ على الوضع الراهن، فإنهما فشلا في تنسيق سياساتهما واستثماراتهما في ميانمار وسريلانكا، البلدين اللذين يحتل كل منهما موقعاً استراتيجياً ويتعرض للضغوط الصينية. ولابد لهذه الحال أن تتغير.
يتعين على القوى الرئيسية في آسيا -بدءاً باليابان والهند، ولكن أيضاً بمشاركة الولايات المتحدة- أن تعمل معاً لضمان إيجاد توازن قوى إقليمي مستقر ومفيد على نطاق واسع. وفي تحقيق هذه الغاية، تُعَد المناورات البحرية مثل “المناورة مالابر” السنوية بين الولايات المتحدة والهند واليابان، مفيدة إلى حد كبير، حيث تعمل على تعزيز التعاون العسكري والاستقرار البحري.
بيد أن أي استراتيجية لن تكون كاملة في غياب عنصر اقتصادي رئيسي. وينبغي للقوى الآسيوية أن تذهب إلى ما هو أبعد من اتفاقيات التجارة الحرة فتطلق مشاريع اقتصادية جغرافية مشتركة تخدم المصالح الجوهرية للدول الأصغر حجما، والتي لن تضطر بذلك إلى الاعتماد على الاستثمارات والمبادرات الصينية لتعزيز النمو. وبهذا يتمكن عدد أكبر من البلدان من المساهمة في الجهود المبذولة لتأمين نظام شامل ومستقر وقائم على القواعد حيث يصبح بوسع كل البلدان، بما في ذلك الصين، أن تزدهر.

براهما تشيلاني

صحيفة الغد الأردنية