خامنئي يقيل السيد السيستاتي

خامنئي يقيل السيد السيستاتي

_72860_bb3

فاجأ الشعب الإيراني العالم بثورة دينية حقيقية في نهاية القرن العشرين، الأمر الذي أذهل فلاسفة كبار حينها منهم ميشيل فوكو. إيران دائما تمثل مفاجأة للعالم الغربي، كما فعل العجوز محمد مصدق في بيجامته حين أعلن تأميم النفط عام 1951 أو الخميني الجالس على الأرض تحت شجرة التفاح من فرنسا عام 1978 يعلن قيام ثورة إسلامية في إيران.

إيران تصنع وتصدّر السيارات وليس اليمن الجنوبي الشيوعي، وعندها اكتفاء ذاتي زراعي واستقلال كامل وكرامة وطنية أكثر من مصر العلمانية التي تعيش على المساعدات، وعندها حوار مع روسيا والصين وأوروبا والولايات المتحدة حول شراكة حقيقة في إدارة الشرق الأوسط. طهران تستطيع خوض مفاوضات صعبة مع خمس دول عظمى لسنوات وتخرج باتفاق نووي أنقذ شعبها من حصار اقتصادي وعقوبات أثقلت كاهل الفقير الإيراني. وإيران تمتلك الطاقات البشرية للتكنولوجيا النووية ولا تشتري الخبرات من الخارج.

الخميني هو الشخصية الإشكالية في التاريخ الشيعي وليس السيستاني؟ ثم أن صدام حسين كدكتاتور ستاليني فصل الدين عن السياسة، وقمع الشيعة أبشع قمع، لم يقف مع الشعب الشيعي حينها لا السيستاني ولا الخوئي في حوزة النجف بل وقف معهم الخميني. ألم تكن أحزابهم السياسية العراقية إسلامية شيعية؟ فهل هذه الأحزاب التي تحكم اليوم باسم الشيعة نتاج وصدى للخميني؟

السيستاني مرجع تقليدي يشبه المراجع الذين كان يطردهم الملك فيصل الأول إلى إيران ويضيّق عليهم إذا مارسوا الشغب السياسي. كل ما يحدث اليوم من حالة شيعية قوية يعود فضله إلى الخميني وإيران ونشاط أتباع الخميني. وليس للسيستاني إلا تلك المكانة التقليدية المتوارثة من القرون الوسطى.

تصوير السيستاني على أنه فولتير ويفصل الدين عن الدنيا مجرد مبالغات عجيبة. ماذا يحدث لو لم يكن هناك سيستاني؟ لا شيء سوى أن حوزة النجف توظف رجلا آخر في كرسي الحوزة. المشكلة هي ماذا يحدث لو لم يكن هناك خميني؟ هذا هو السؤال المحيّر.

وأساسا لا أعتقد بوجود خلاف بين السيستاني وخامنئي. فخامنئي رجل اجتمعت بيده سلطة الدنيا والدين، بينما السيستاني رجل تقليدي يجلس على كرسي في مرجعية النجف، مثله مثل رجل تقليدي آخر يجلس على كرسي حوزة قم في إيران.

المرجع الذي سبق السيستاني على حوزة النجف آية الله أبوالقاسم الخوئي كان أكثر علما وأعظم وزنا من السيستاني وبحوثه أكثر تأثيرا لكنه نفس مدرسة السيستاني، فكان صدام حسين يبطش بالشعب وهو جالس يتفرّج ولا يحتج. ثم لماذا لا يبتعد السيستاني كليّا عن السياسة إذا كان مكتبه فعلا منهمكا في النشاط الروحي؟ لماذا يتدخل مكتب المرجع بقوة ثم فجأة ينسحب؟ مثله مثل مقتدى الصدر مرة قائد ميليشيات تبطش، ومرة أخرى يعتزل السياسة نهائيا ويتفرغ للعلوم الدينية.

السيستاني انسحب حاليا من التصريح السياسي بعد أن أمرت واشنطن الحكومة العراقية علنا بحل الحشد الشعبي الذي ارتكب جرائم سلب ونهب وحرق جثث وهدم بيوت. وهذا متوقع، فالحشد الذي تأسس بفتوى “الجهاد الكفائي” أصبح عبئا على الدولة بسبب بعض العناصر المنفلتة، التي لا تتردد في ارتكاب أبشع الجرائم. إضافة إلى أن الخطر على بغداد من الإرهابيين الدواعش قد زال تماما بعد الضربات الروسية.

أي حرب قومية عربية هذه التي سنخوضها بجيش تركي؟ وأي علمانية هذه التي نرفعها بتحالف إسلامي سني؟

تمرد على إيران

الموقف التقليدي الحقيقي في حوزة النجف مثّله المرجع محمد كاظم اليزدي صاحب كتاب “العروة الوثقى” والمتوفى سنة 1918 الذي عارض جذريا تدخل رجال الدين في الحياة النيابية السياسية في إيران، وقال إنه في نظر الشيعة كل الحكومات الدنيوية باطلة والحكم العادل الحق للإمام المعصوم “المهدي”. ثم قال صراحة من التناقض أن يقبل الشيعة بالانتخابات بينما موقفهم العقائدي في التاريخ وفلسفة الحق مبني على الوراثة والانتخاب الالهي.

الخميني مثل انقلابا كبيرا على هذه النظرة فهو مَن أعلن بجرأة نهاية عهد الانتظار الذي دام قرونا طويلة، ونهاية مفهوم “التقية” أيضا. لقد احتفظ النظام الخميني بالمدرسة التقليدية ولم يحاول القضاء عليها حتى لا يرتبط مصير المذهب الشيعي بنظام الحكم الإيراني، يعني باللغة العراقية “خط رجعة”.

المهمّ أننا لا نرى السيستاني أو مكتبه مخلصا للمدرسة التقليدية أو فصل الدين عن الدولة، ولا نرى حدودا واضحة لهذا التدخل، ولا نرى أن الأحزاب السياسية الدينية الشيعية الحاكمة في العراق اليوم واضحة في الفصل بين الطريقة التقليدية والطريقة الخمينية الثورية.

اليوم يعتبر النظام الإيراني “حاميا للأقليات” في المنطقة ضد التطرف الداعشي والتفسير الدموي التكفيري للنصوص المقدسة، وهذا يهدد بانفجار حرب إقليمية طائفية بسبب الضربات العنيفة التي تلقاها الإسلام السني في سوريا والعراق. ولا نرى حركة جدية حقيقية في هذه الظروف للتمرد على النظام الإيراني من قبل المجتمع الشيعي، حتى من قبل العلمانيين، فالاحتجاج لا يتجاوز مرحلة التذمر والتبرم فقط، بسبب انعدام ممارسة التكفير والضغط على الحريات الشخصية في إيران. الأهم من كل ذلك نجاح إيران في عبور اختبار أربعة عقود من الحصار والعزل والخروج بحكومة قوية بعد كل سنوات الغليان.

إيران ستتخلص في النهاية من السيستاني وجميع الطاقم الشيعي السياسي الحالي. فهي تمتلك رجالا على شاكلة آية الله محمود الشاهرودي وأبومهدي المهندس وآخرين قيد الإعداد، ما زالت تحتفظ بطاقم شيعي نزيه ومخلص لمبادئ الثورة الخمينية بعد ضم العراق. الثورة الخمينية قامت على رجال آمنوا بالكرامة القومية للشيعة، وبرفض التبعية للأجنبي ونهب ثروات الشعب الإيراني والارتهان للاستكبار، بينما الطاقم الشيعي العراقي الحالي هو طاقم احتلال أميركي وفساد مالي. مرحلة انتقالية فقط. بدليل أن إيران حين أرسلت معهم بعد الاحتلال شخصيات مثل محمد باقر الحكيم وعز الدين سليم وغيرهم تم اغتيالهم فورا من قبل الأميركان. المرحلة تتطلب هذا الطاقم الحالي وإيران تعرف ذلك.

يخطئ مَن يحلل الحالة العراقية بمعزل عن إيران، فالعراق هامش من هوامش كثيرة لطموح الدولة الإيرانية، ولا يوجد احتجاج على مشروعها المقدس، لا من قبل الشيعة ولا من قبل المواطن الإيراني. يوجد تبرّم علماني خفيف فقط. تقوم إيران بتفتيت الدولة العراقية تمهيدا لابتلاعها، وهذا التفتيت ضروري لعملية ضم ضخمة من هذا النوع. السنة بالمقابل يكتبون ضد إيران، وضد داعش وضد الإخوان المسلمين، وضد الإعلام الغربي الذي يهاجمهم بشكل مستمر، بينما إيران لا تعاني من كل هذه الخصومات الداخلية والخارجية.

_145512914115

القضية مسألة وقت قبل أن يغرق السنة في تناقضاتهم، فأي حرب قومية عربية هذه التي سنخوضها بجيش تركي؟ وأي علمانية هذه التي نرفعها بتحالف إسلامي سني؟ وأي رسالة للتنوع والتعايش والمساواة نحملها في مجتمع تتنقب فيه النساء ويعتمد نظام الخدم والأقنان. التناقضات ستجرفنا إذا لم ننتبه.

المشكلة ليست في التدخل الإيراني والأميركي في العراق، الموضوع أعقد من ذلك بكثير. فلولا أميركا وإيران كيف يمكن لطائفة مزارعين مسالمين اختطاف السلطة من طائفة قبائل صحراوية رعوية محاربة معروفة بالبطش وضاربة في فنون الحرب والمخابرات ومعتادة على السيادة منذ العهد العثماني؟ غير ممكن طبعا لأن العامل النفسي واضح في هذه المسألة. كل قوانين التاريخ والبيئة ترجّح كفة السنة في الصراع على السلطة في العراق لهذا كان تدخل أميركا وإيران جوهريا في تأسيس واقع جديد، واقع العراق غير القومي وغير السني بل عراق شيعي.

إن فهم الشعب الشيعي لهذا التعقيد هو الذي يجعله مؤيدا لعملية التحول رغم كل سلبيات الدولة العراقية. لقد مر زمن على شيعة العراق يطلقون فيه الرصاص على أيديهم وأرجلهم كي لا يلتحقوا بالجبهات التي يحشدها صدام حسين بالقوة لقتال الخميني وجيش الثورة الإسلامية في إيران.

لقد تصرفت إيران بخبث شديد في العراق، عملت على اغتيال وشراء وتهجير الأدمغة السنية وبقيت الذراع الباطشة للقبائل السنية بلا دماغ. هذه الذراع تتوزع بين صحوات ودواعش في انتظار التشيّع في المستقبل. إيران آية الله الخميني وبهشتي وبروجردي والأراكي والسيستاني وخامنئي، ومنتظري وشريعة مداري ومرعشي النجفي، والشيرازي ومرتضى العسكري ومدرسة قم الرفيعة وحوزة النجف الثقيلة وشخصيات سياسية مخلصة مثل قاسم سليماني وعلي أكبر ولايتي وباقر الحكيم ومحمود الشاهرودي ولاريجاني ورفسنجاني وأحمدي نجاد وخاتمي وروحاني وجواد ظريف. بينما سنة العراق هم اليوم مشعان الجبوري وخميس الخنجر وشيوخ القبائل والبغدادي وداعش.

الخطاب القومي

فكروا معي ما أهمية عائلة السعدون في الجنوب مثلا؟ مع ذلك قاموا باجتثاثها ومصادرة أراضيها واغتيال شيوخها.

عائلة لها تاريخ كبير وكانت تقود قبائل المنتفج الشيعية وهي على المذهب السني وجذورها في الجزيرة العربية. هكذا عائلة بالنسبة إلى إيران يجب اجتثاثها واقتلاعها بلا تردد لكي لا تشكل نواة لمشروع مهما كان بسيطا في المستقبل.

كتبنا في ما مضى للسعودية لكن كتابها نصحونا بالقبول بالأمر الواقع والتعايش. لقد استجابت اليوم في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وربما كان الوقت متأخرا قليلا. حتى التفكير بخطاب قومي في هذا الزمان متأخر ربما.

صدام حسين استثمر الخطاب القومي في الثمانينات من القرن الماضي حين كانت القومية بألف خير. لعله ليس من السابق لأوانه الاعتراف لإيران بإحراز نقاط قوية.

السيد آية الله علي السيستاني يمثل أعلى مجد تصله الأقليات في العراق. دخل العراق فتى عمره 21 سنة، ليس عربيا، وليس عنده عشيرة. دخل كـ”شيعي” مخلص ووهب نفسه للحوزة العلمية بالنجف، ولجوار علي بن أبي طالب. بعد عقود أصبح مرجعا أعلى تسجد بين يديه القبائل العربية القحطانية والعدنانية وتنحني له الزعامات العراقية في بلد مكون من قبائل بطش مسلحة. لقد حقق ذلك بالعلوم الدينية وبالعقائد وبنظام الحوزة الشيعية.

إيران ستتخلص في النهاية من السيستاني وجميع الطاقم الشيعي السياسي الحالي في العراق

قبل السيستاني كان الرفيق فهد (يوسف سلمان) وهو مسيحي من محافظة الناصرية أسس الحزب الشيوعي العراقي وأصبح رمزا من رموز العراق الكبيرة. وأيضا لم تكن عند هذا الرجل قبيلة ولا سنام من نسب عربي، لقد صنع مجده في الحزب الشيوعي وبالرفاق في النضال. لطالما كان الحزب الشيوعي ملاذا للأقليات في العراق. فأين يذهب الإيزيدي والمسيحي والصابئي الطموح؟ كان الحزب الشيوعي بيتا لهؤلاء الذين يعيشون في تجمعات القبائل المخيفة ويشاركونها وطنا واحدا.

وهذا سبب التعاطف الذي رأيناه مؤخرا بين الحزب الشيوعي العراقي والمشروع الشيعي، فبالرغم من كل شيء كان كلاهما ملاذا آمنا للأقليات التي لا تمتلك قبيلة تحميها. إن تجريد القبائل من السلاح واختطاف السلطة المركزية منها أمر حدث في عهد الرئيس السابق عبدالكريم قاسم بمساعدة الشيوعيين، وحدث في هذا العهد الشيعي بمساعدة رجال الدين.

خلال عشر سنوات حاولت القبائل السنيّة بعدة طرق، منها مقاومة الاحتلال الأميركي والحرب على المجوس، وحاولت الانتماء للقاعدة وداعش وهي تنتظر الآن صداقة وتحالفات جديدة بعد القضاء على داعش.

النواة العربية القبلية السنية تكاد تموت من العطش للسلطة، تريد ذلك المجد الذي في بغداد وسلطانها، هذه القبائل المجيدة كلها فرسان، والفارس بحاجة إلى فريسة، كان الشيعي هو الفريسة، المشكلة أنه قد تذوق السلطة أيضا ولن يتركها بسهولة.

الصراع بعد داعش مستمر، فهو مجرد محاولة من عشرات المحاولات الهدف منها استعادة الحكم والثروة. وفي صراع كهذا لا أهمية للأفكار والطرق والنازحين وعدد القتلى والمشردين.

لثمانين سنة حكم سنة العراق بالعلمانية والقومية وإباحة الخمور والاختلاط، ولم يكتشفوا عواطفهم الوهابية وحماستهم الداعشية إلا حين فقدوا الحكم وصداقة الولايات المتحدة معا.

المهم في هذه الورقة أن الصراع أصبح اليوم أكبر من السيستاني ويبدو أن السيد الولي الفقيه علي خامنئي قد أحاله على المعاش مبعدا إياه عن صراع كبير وضخم على المركزية والنفوذ في أهم منطقة في العالم كله.

أسعد البصري

نقلا عن صحيفة العرب