إذا كانت هناك أي شكوك متبقية حول أهداف فلاديمير بوتين في سورية، فإن التصعيد العسكري الروسي الأخير حول هذه المدينة يجب أن يزيل هذه الشكوك جميعاً
* * *
إذا ما سقطت حلب في يد النظام السوري، فسوف تتخذ الحرب السورية الشرسة منعطفاً جديداً تماماً، والذي ستكون له عواقب بعيدة المدى -ليس على المنطقة وحدها، وإنما على أوروبا أيضاً. كما أن الهجوم الأخير الذي تشنه قوات الحكومة على المدينة السورية الشمالية المحاصرة، والذي دفع بعشرات آلاف أخرى من الناس إلى الهرب في الأيام الأخيرة، يشكل هو الآخر لحظة فارقة في العلاقات بين الغرب وروسيا التي تلعب قواتها الجوية دوراً رئيسياً في الهجوم. ولن تخلف هزيمة الثوار المناهضين للأسد الذين سيطروا على المدينة جزئياً منذ العام 2012 أي شيء على الأرض في سورية سوى نظام الأسد و”الدولة الإسلامية”. وسوف يتلاشى كل أمل في التوصل إلى تسوية متفاوض عليها، والتي تشرك المعارضة السورية. وكان هذا هدفاً روسياً قائماً منذ وقت طويل –وكان في صلب قرار موسكو التدخل عسكرياً في سورية قبل أربعة أشهر.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون قصف حلب، رمز الثورة ضد الأسد في العام 2011، قد تزامن مع محاولة عقد محادثات السلام في جنيف. وكما هو متوقع، سرعان ما تعثرت تلك المحادثات. وكان القصد من التصعيد العسكري الروسي دعماً للجيش السوري هو إجهاض أي إمكانية لأن تتمكن معارضة سورية حقيقية من أن تقول كلمتها حول مستقبل البلد. كما كان القصد منه إحباط أي خطط كان الغرب والأمم المتحدة قد وضعاها رسمياً. بالإضافة إلى أنه يتناقض جذريا مع التزام موسكو المعلن برعاية عملية سياسية من أجل إنهاء الحرب.
سوف يتم الشعور بالهزات الارتدادية لما يحدث الآن في كل مكان. وإذا كان ثمة شيء تعلمه الأوروبيون في العام 2015، فهو أنهم لا يمكن أن يكونوا معصومين من آثار الصراع الجاري في الشرق الأوسط. وإذا كان هناك شيء تعلموه من أزمة أوكرانيا في العام 2014، فهو أن روسيا يمكن أن تعتبر بالكاد صديقة للغرب. إنها قوة رجعية قادرة على العدوان العسكري.
في واقع الأمر، وبينما يتعلق مصير حلب في الميزان، أبرزت هذه الأحداث –بطريقة ربما لم تفعلها أي أحداث أخرى منذ بداية الحرب- طبيعة الصلات القائمة بين المأساة السورية وبين الضعف الاستراتيجي المستمر الذي يصيب أوروبا والغرب بشكل عام. وهذا التأثير المتمدد ليس شيئاً أولته موسكو اهتماماً وثيقاً فحسب، وإنما غذته ورعته أيضاً. ويتلاءم انتشار عدم الاستقرار تماماً مع هدف روسيا المتمثل في السعي إلى الهيمنة عن طريق استغلال التردد والتناقضات التي يعرضها الذين تصنفهم كخصوم.
سوف تحدد أحداث حلب الكثير مما سيحدث تالياً. سوف تؤدي هزيمة المعارضة السورية إلى المزيد من تمكين أسطورة “داعش” الذي يزعم أنه المدافع الوحيد عن المسلمين السنة –بينما يقوم بترويع السكان الذين يعيشون تحت سيطرته. وهناك العديد من المفارقات المأسوية في هذا السياق، وليس أقلها أن الاستراتيجية الغربية ضد “داعش” اعتمدت رسمياً على بناء قوات برية من المعارضة السورية، والتي تستطيع ذات يوم دحر التمرد الجهادي ودفعه إلى الخروج من معقله الحصين في الرقة. فإذا كان الحال ينتهي بنفس الناس الذين سيُعتمد عليهم للقيام بعمل جنود المشاة إلى التطويق والسحق الآن في حلب، فمن هو الذي سيعتمد عليه الغرب بعد ذلك؟ لقد زعمت روسيا كل الوقت بأنها تقاتل “داعش”، لكنها تساعد في حلب في تدمير نفس الجماعات السورية التي أثبتت في السابق كفاءتها وفعاليتها ضد التنظيم الإرهابي.
لقد عمد فلاديمير إلى تكرار استراتيجيته في الشيشان في سورية، والقائمة على الهجوم العسكري الشامل ضد المناطق المأهولة بالسكان، بحيث يتم تدمير الثوار أو إجبارهم على الخروج. وهناك تاريخ طويل من الروابط –بالعودة وراءً إلى الحقبة السوفياتية- بين هيكل السلطة السورية وبين المخابرات الروسية. فتماماً كما قضى نظام بوتين جسدياً على أولئك في الشيشان من الذين ربما يكونون من بين المحاورين للتوصل إلى تسوية سلمية متفاوض عليها، قام الأسد بخلط كل المعارضة السياسية بـ”الإرهاب”. وكما لم تكن هناك أي تسوية في الشيشان (وإنما الحرب الشاملة المستمرة والدمار حتى وضع الكرملين الزعيم الشيشاني الخاص به في السلطة)، فإنها لن تكون هناك، من وجهة نظر بوتين، أي تسوية في سورية مع المعارضة.
مع ذلك، تذهب أهداف روسيا الاستراتيجية أبعد كثيراً من ذلك. فمع أن بوتين يريد ترسيخ السلطة الروسية في الشرق الأوسط، فإنه يضع أوروبا أيضاً نصب عينيه. وكانت اللحظة الفاصلة قد جاءت في العام 2013، عندما تنازل باراك أوباما عن الضربات الجوية ضد قواعد الأسد العسكرية بعد استخدام الأسلحة الكيميائية. وشجع ذلك بوتين على اختبار عزم الغرب في مكان أبعد، في القارة الأوروبية نفسها. ولا شك أن بوتين أُخذ على حين غرة بالانتفاضة الشعبية في أوكرانيا، لكنه تحرك بسرعة نحو استعادة الهيمنة من خلال استخدام القوة، بما في ذلك ضم الأراضي. وقد حسب –محقاً- أن الغرب لن يستطيع منع حربه المهجنة في أوكرانيا. ونتيجة لذلك، هزت السياسات الروسية في أوكرانيا أسس نظام أوروبا الأمني لما بعد الحرب الباردة –والتي يرغب بوتين في رؤية إعادة كتابتها لمصلحة روسيا.
بالمثل، أدى التدخل العسكري الروسي في سورية إلى وضع حلف الناتو في مأزق، فهناك دولة حليفة من أعضائه الأساسيين تقف مباشرة على خط المواجهة. وما تزال علاقات تركيا مع روسيا على حافة الهاوية منذ عدة أشهر. والآن، حذرت موسكو تركيا علناً من مغبة إرسال قواتها إلى داخل سورية للدفاع عن حلب. وسوف تكون كيفية اختيار الزعيم التركي لطريقة الرد مصدراً آخر لصداع الغرب.
كل هذا يحدث في حين تجهد الحكومات الأوروبية يائسة لكسب تعاون أنقرة حول مشكلة اللاجئين. وإذا تحولت تركيا الآن إلى صانع مشاكل لحلف الناتو في جناحه الشرق أوسطي، فإن ذلك سيخدم المصالح الروسية. وعلى نحو مشابه، إذا شهدت أوروبا موجة جديدة من اللاجئين، فإن روسيا هي التي تستفيد. فقد أشاعت أزمة اللاجئين انقسامات عميقة في القارة الأوروبية، وساعدت الأحزاب اليمينية الشعبوية على الازدهار –والتي تتحالف العديد منها مع موسكو ضد الاتحاد الأوروبي كمشروع. ووضعت أزمة اللاجئين المؤسسات الرئيسية في الاتحاد الأوروبي تحت الضغط؛ وزادت من خطر خروج بريطانيا من الاتحاد (وهو ما سترحب به موسكو)؛ كما أضعفت بقوة موقف أنجيلا ميركل التي هندست العقوبات الأوروبية ضد روسيا.
بطبيعة الحال، سيكون ضرباً من المبالغة القول بأن بوتين خطط لكل هذا من البداية. لقد أرشدته الأحداث بقدر ما كان يريد السيطرة عليها. لم تكن روسيا مسؤولة عن اندلاع الحرب الأهلية في سورية، وليست لها يد في كل ما يحدث في أوكرانيا. لكن الطريقة التي أدارت بها روسيا بيادقها ينبغي أن تقرع من أجراس الإنذار في الغرب والأمم المتحدة أكثر مما تفعل الآن.
يحب بوتين أن يُظهر نفسه كرجل نظام، لكن سياساته لم تجلب سوى المزيد من الفوضى، ومن المتوقع أن تدفع أوروبا ثمناً متزايداً لهذه السياسات. وسوف يتطلب دفع النظام الروسي إلى التصرف بطريقة مغايرة أكثر من مجرد التمني. والآن، تشكل حلب مأساة إنسانية ما تزال تتكشف، لكن من الضروري وصل النقاط بين محنة هذه المدينة، ومستقبل أوروبا، ورؤية كيف تحوم روسيا فوق الأمرين على حد سواء.
علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية