نوافذ معارضة: أبعاد بروز نمط “السخرية الإلكترونية” في الشرق الأوسط

نوافذ معارضة: أبعاد بروز نمط “السخرية الإلكترونية” في الشرق الأوسط

4357

ظهرت بشكل سريع وملفت للانتباه مجتمعات السخرية السياسية الإلكترونية على شبكة الإنترنت، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة “فيسبوك” و”تويتر”، في السنوات القليلة الماضية؛ حيث تزايد بشكل ملحوظ عدد متابعيها في كثير من دول إقليم الشرق الأوسط، وهى عبارة عن صفحات تقوم بالاعتماد على نمط السخرية في نقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليس فقط تجاه أنظمة الحكم لعدم نجاح بعضها، وإنما أيضًا تجاه النخب والقوى السياسية المعارِضة لعدم قدرتها على توفير بدائل جادة قابلة للتطبيق لما تقدمه الحكومات من برامج وسياسات لمواجهة المشكلات الخاصة بتداعيات “اليوم التالي” لما بعد الثورات. وتأخذ المواد المنشورة فيها عدة صور أبرزها؛ رسومات الكاريكاتير، والصور المركبة المعلق عليها، والنكات السياسية، ومقاطع الفيديو والصوت للتعليق على تصريحات بعض المسئولين والشخصيات العامة.

خصائص متعددة:

تتسم السخريةُ الإلكترونية في دول الإقليم بعدة خصائص تميزها تتمثل في:

1- سرعة الإعداد والقابلية للانتشار: وذلك نظرًا لكونها تعتمد في جوهرها على البساطة وعدم التعقيد والتكلف؛ حيث يمكن أن يأخذ رسم كاريكاتير، أو صياغة نكتة دقائق معدودة، لكنها في الوقت ذاته تحدث تأثيرًا كبيرًا ناتجًا عن قدرتها الفائقة على الانتشار عبر خاصية “المشاركة” لتصل إلى ملايين الأشخاص حول العالم، وليس داخل الدولة المستهدفة فحسب.

2- شمولية وكثافة التغطية: أثبتت صفحات السخرية الإلكترونية قدرتها على مواكبة وتغطية كافة جوانب الحياة السياسية في مختلف دول المنطقة، فقد كانت حاضرة بقوة في كافة الاستحقاقات الانتخابية، حيث نال مرشحو الرئاسة، سواء في الجزائر أو تونس، على سبيل المثال، قدرًا كبيرًا من السخرية إبان مراحل الانتخابات، فضلا عن كونها كانت حاضرة أيضًا بقوة في كافة أشكال الحراك الثوري في بعض الدول. علاوةً على قدرتها على تغطية الموضوعات ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية لا سيما في الأردن والسودان في سخريتها من تزايد وارتفاع الأسعار خاصة للمنتجات النفطية، وهو ما لم تستطع صور السخرية التقليدية تغطيته.

3- الطبيعة التشاركية للمواد الساخرة: فغالبية المواد التي يتم السخرية منها تكون من أفكار رواد تلك الصفحات عبر الاعتماد على نمط توليد الأفكار التشاركية بين رواد الصفحة والقائمين عليها، وهو ما يجعلها جاذبة لقواعد كبيرة، لا سيما وأنها معبرة عن توجهات روادها، مما يجعلها أكثر رواجًا عن غيرها. فضلا عن قيام مديري تلك الصفحات بالرد والتفاعل مع أعضائها، مما يجعل المواد الساخرة نتاج عمل جماعي وتشاركي، وهو ما ينعكس على اتساع قاعدة مقبوليتها، وبالتالي تزايد انتشارها.

4- صعوبة السيطرة عليها: فبالرغم من محاولات بعض أنظمة الحكم تحجيم حركة المواد الساخرة على مواقع الإنترنت عن طريق تطوير المنظومة التشريعية، أو حجب بعض المواقع التي تُستخدم لتحميل المواد الساخرة، فإن التجارب المختلفة أثبتت صعوبة السيطرة على حركة تداولها الناتج عن الطبيعة السائلة والمفتوحة للمواقع الإلكترونية بشكل عام، ومواقع التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص.

5- القدرة على إخفاء هوية الساخرين: فمع التحركات الأمنية في بعض الدول لمواجهة عمليات النقد الإلكتروني، وجدت القواعد الشبابية في بعض الدول -خاصة في الجزائر- مواقع التواصل الاجتماعي ساحة آمنة للتعبير عن آرائهم الناقدة للنظام والمعارضة، لكون الساخرين قادرين على إخفاء هويتهم.

أسباب الصعود:

 لم يكن من قبيل الصدفة التصاعد اللافت لنمط السخرية الإلكترونية من جانب، وتراجع السخرية التقليدية من جانب آخر؛ حيث دفعت عدة عوامل في هذا الاتجاه، منها ما يرجع لطبيعة التطور التقني والتكنولوجي الذي ساد في السنوات الأخيرة، ومنها ما يرتبط بماهية المناخ السياسي والتطورات التي طرأت عليه، حيث يأتي في مقدمتها التزايد المضطرد في أعداد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي. فوفقًا لمارك زوكيربرج المؤسس والرئيس التنفيذي لشبكة “فيسبوك”، فإنه بنهاية عام 2014 بلغ عدد مستخدمي “فيسبوك” شهريًّا 1.44 مليار نسمة، و800 مليون لخدمة “واتس آب”، و600 مليون لبرنامج الاتصال “فيسبوك ماسنجر”، و300 مليون لتطبيق “إنستجرام”، فضلا عن بلوغ عدد الرسائل اليومية بين الأعضاء ما يقارب 45 مليار رسالة، إلى جانب 6 مليارات مشاهدة لمقاطع الفيديو عبر “فيسبوك”، علاوة على وجود 2 مليون معلن على التطبيق ذاته. ولعل هذا التوسع الضخم قد دفع في اتجاه اللجوء نحو نمط السخرية الإلكترونية، خاصة مع قدرته الهائلة على الانتشار.

ويُضاف لذلك، طبيعة المرحلة التي تمر بها مجتمعات المنطقة التي تتسم بقدر كبير من التعقيد، وانتشار عدم اليقين والإحباط السياسي والاجتماعي، فضلا عن التراجع الاقتصادي، وهو ما يُعد أحد الدوافع الرئيسية لدى القطاعات المجتمعية للجوء للسخرية في محاولة للتخفيف من أزمات المشهد العام الذي يخيم على كافة المجالات بنسب متفاوتة، مما يقلص من وطأة حالة الإحباط السائدة.

 كما أن حالة انسداد القنوات التقليدية للمعارضة والتعبير عن الرأى، بعد قيام عدد من الحكومات بإقرار قوانين وتشريعات تقيد حرية التظاهر والتجمع؛ دفع الأجيال الشبابية في مختلف دول الإقليم للبحث عن ساحة جديدة قابلة لاستيعاب آرائهم، والمتمثلة في شبكة الإنترنت والمواقع المتعددة التي تسمح بتداول كافة المواد الساخرة دون وجود جهات رقابية تستطيع منع تداول تلك المواد، وهو ما أدى لتصاعد نمط السخرية الإلكترونية. كما ساهم غياب الرؤية لدى بعض المسئولين في توفير مادة غنية للسخرية، حيث استطاعت الأجيال الشبابية استغلالها وتوظيفها في مواد ساخرة عبر الوسائل التقنية الحديثة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

تداعيات متباينة:

 فرض تصاعد نمط السخرية الإلكترونية حزمةً من التداعيات السياسية في دول الإقليم، إذ تتنوع بين الإيجابي في بعض الأحيان، وبين السلبي في أحيان أخرى. وفي هذا الإطار يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

1- بروز نمط المعارضة والمعارضة المضادة الافتراضية: فمع التطور المستمر في عمليات النقد الإلكتروني، حدث تطور مصاحب في تحويل عمليات النقد والسخرية المنفردة إلى عمليات أكثر تنظيمًا في إطار مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي من جانب، كما طورت أيضًا بعض أنظمة الحكم والأحزاب والقوى السياسية التي يتم توجيه النقد إليها آلية مضادة للرد يطلق عليها “الكتائب الإلكترونية” من جانب آخر. وقد ساهم ذلك في تزايد حالة الاحتقان الافتراضي بشكل ملحوظ على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما انعكس على تزايد معدلات الاحتقان المجتمعي، وهو النمط السائد في بعض دول المنطقة.

2- تهديد الأمن القومي لبعض الدول: لا سيما مع عدم القدرة على تحديد هوية ناشري المواد الساخرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يوفر فرصة ومساحة أكبر للجماعات التخريبية والقوى الخارجية لاختراق المجتمعات عبر الشبكات المفتوحة، وتأليب الرأى العام داخل بعض الدول ضد سلطات وأنظمة الحكم، خاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية، مما يهدد استقرار وأمن المجتمعات في تلك الدول.

3- آلية لتصحيح مسار السياسات الحكومية: أصبحت موجات النقد الإلكتروني تلعب دورًا محفزًا للحكومات في إعادة النظر في بعض القرارات التي تتخذها وتؤثر على الأوضاع بشكل عام، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

خلاصة القول، إن طبيعة التطور التقني والتكنولوجي الهائل الذي اجتاح العالم في السنوات الأخيرة، والتي تمثلت أبرز انعكاساتها في اتساع دور مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، وتحولها لأداة تعبئة وحشد لكافة التحركات الثورية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ فتحت مجالا أوسع لموجات النقد والسخرية الإلكترونية، لا سيما مع حدوث تراجع في القدرة الإبداعية لأنصار النمط التقليدي للسخرية السياسية، علاوة على طبيعة المرحلة التي تتسم بقدر كبير من الانفتاح والسرعة، والتي فرضت انتشار هذا النمط الجديد من السخرية.

وحدة التحولات الداخلية

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية