أثارت التطورات التي شهدتها أسواق النفط العالمية منذ منتصف عام 2014 العديد من التساؤلات حول انعكاسات التراجع الملحوظ في الأسعار العالمية للنفط على الأوضاع الاقتصادية في الدول الرئيسية المصدرة له، ومنها بطبيعة الحال دولة الإمارات العربية المتحدة، وما إذا كان استمرار مثل هذه المستويات المتدنية من الأسعار سيؤدي إلى مشكلات في المالية العامة، وفي تطبيق خطط التنمية الاقتصادية، وإيجاد فرص التوظف للشباب، إلى جانب أبعاد أخرى متعددة اقتصادية واجتماعية في الدول المذكورة.
وتسعى الإمارات إلى أن تكون نموذجاً لدولة نجحت في تحويل اقتصادها من الاعتماد على الموارد الطبيعية إلى الصناعات المتقدمة والبحث العلمي، بفضل مهارات وعقول أبنائها، وهذا ما أكده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، خلال مشاركته في أعمال “خلوة الإمارات ما بعد النفط” في نهاية يناير الماضي.
ونظراً لأن دولة الإمارات سباقة في امتلاك الحلول المبتكرة والأفكار الخلاقة لمختلف التحديات، فإنها اتخذت من الخطوات ما يسمح لها بالانتقال السلس إلى مرحلة ما بعد النفط.
ماذا وراء التراجع الأخير في أسعار النفط العالمية؟
ثمة العديد من العوامل والمتغيرات التي أثرت بصورة ملموسة على جانبي العرض والطلب العالميين على النفط خلال ما يقرب من العام ونصف العام الماضيين، بصورة أدّت إلى تراجع أسعاره العالمية من أكثر من المائة وخمسة دولارات للبرميل في منتصف عام 2014، إلى ما يقارب ثلاثين دولاراً في الوقت الراهن، أي بتراجع وصلت نسبته لما يقارب 75% خلال الفترة المذكورة.
فعلى جانب العرض، يُلاحظ أن العديد من الدول الرئيسية المنتجة للنفط قد عملت على زيادة إنتاجها بصورة ملموسة، إما بسبب التقدم التقني الذي جعل من موارد مثل النفط الصخري في الولايات المتحدة، والنفط الرملي في كندا ذات جدوى اقتصادية في الإنتاج في ظل المستويات المرتفعة لأسعار النفط، وبما أدى، على سبيل المثال، إلى زيادة إنتاج الولايات المتحدة بنحو مليون برميل يومياً، خلال كل عام من الأعوام الثلاثة السابقة لتراجع أسعار النفط.
كذلك، عملت العديد من الدول ذات تكاليف الإنتاج المرتفعة من خارج منظمة “أوبك”، مثل روسيا، على مزاحمة إنتاج العديد من الدول داخل المنظمة، مثل دول مجلس التعاون الخليجي، والتي يتميز عدد منها بتكاليف إنتاج منخفضة، بما زاد المعروض في السوق العالمية وأضعف من عملية التنسيق بين الدول المنتجة داخل منظمة “أوبك” وعدد من الدول الرئيسية المنتجة من خارجها.
وبالإشارة أيضاً إلى منظمة الأوبك، والتي تراجع دورها في التأثير على السوق بصورة كبيرة مع تقلص نسبة إنتاجها من الإنتاج العالمي إلى نحو الثلث تقريباً، فقد تزايدت حدّة الخلافات داخلها، بما جعل الوصول إلى اتفاق حول تقليص الإنتاج لمنع تدهور الأسعار أمر صعب المنال.
وأخيراً، أدت توقعات بعودة دول رئيسية كانت قد عانت مشكلات في الإنتاج والتصدير، مثل العراق وإيران، إلى مستويات طبيعية بصورة سريعة إلى توقعات بزيادة المعروض بصورة أكبر مستقبلاً، بما جعل الضغوط على الأسعار العالمية تتسم بدرجة كبيرة من الاستدامة خلال الفترة الماضية.
أما في جانب الطلب، فقد أدى استمرار التباطؤ الاقتصادي العالمي بعد أزمة عام 2008، إلى ضعف في الطلب على النفط، كما أدى تراجع النمو وتوقعاته مؤخراً في العديد من الاقتصادات الناشئة، وعلى رأسها الصين، إلى ضغوط على أسعاره. ولا يمكن إغفال التطور التقني الذي ساعد على زيادة كفاءة استخدام الطاقة، والتوجه نحو البدائل من الطاقة المستدامة والجديدة من أجل الحفاظ على البيئة، وهي الأمور التي إن لم تسهم في تخفيض ملحوظ في الطلب على النفط، فقد أسهمت على الأقل في عدم نموه بصورة تساير النمو في النشاط الاقتصادي العالمي الضعيف أصلاً.
وبالنظر إلى العوامل المذكورة أعلاه المؤثرة على أسعار النفط العالمية، من المنتظر أن تستمر الأسعار عند مستويات أدنى بصورة ملحوظة عن تلك المتحققة ما قبل منتصف عام 2014، على الأقل في الأجل المتوسط، بحيث لا يتوقع أن تتحرك هذه الأسعار في الأجل المتوسط بما يفوق 60 دولاراً للبرميل.
دولة الإمارات.. محوران أساسيان لمواجهة تقلبات أسعار النفط
تعاملت دولة الإمارات العربية المتحدة بصورة مُبكرة وسبَّاقة مع الآثار السلبية المحتملة لتقلبات عوائد النفط، سواء بتراجع أسعاره العالمية، كما حدث مؤخراً، أو احتمالات نضوبه في المستقبل البعيد، وذلك من خلال التركيز على محورين أساسيين، وهما: (التنويع الاقتصادي، ورفع كفاءة المالية العامة)، حيث عملت الدولة على تطوير الاقتصاد والنظم التعليمية المؤهلة للمنضمين لسوق العمل بالدولة، بصورة تأخذ في الاعتبار هذه الآثار المحتملة، وتحولها من مصادر للقلق إلى مصادر للاحتفال بتحقيق التقدم الاقتصادي القائم على التنويع والحداثة والتطور التقني.
وفي هذا الإطار، تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة عدداً من استراتيجيات التنويع الاقتصادي، التي استهدفت تقليص دور قطاع النفط في النشاط الاقتصادي وزيادة دور قطاعات تتميز فيها الدولة بمزايا تنافسية، مثل السفر والسياحة، والخدمات المالية، والتجارة الخارجية، وتقنية المعلومات، وصناعات مثل مكونات الطائرات، وعملت على توفير البيئة الملائمة والمثالية المشجعة للاستثمار الخاص والاسثمارات الخليجية والأجنبية في الدولة، سواء بتيسير وتحديث الإجراءات، والاعتماد على مبدأ الحكومة الذكية، وتوفير شبكات للخدمات الأساسية، سواء للطرق أو الاتصالات، أو المطارات والموانئ، أو المناطق الحرّة.
كذلك، عملت الدولة على التعامل مع الفوائض المالية المتحققة من النفط بصورة تسمح بتجنب سلبيات تراجع أسعاره وتحقيق العدالة في توزيع هذه العوائد بين الأجيال، من خلال استثمارات صناديق الثروة السيادية، التي تعتبر الأكبر عالمياً، والتي تسمح بتنويع مصادر الدخل وتحمي الدولة من تقلبات أسعار النفط، وتحافظ على الثروة وتنميها للأجيال المستقبلية.
كما بذلت دولة الإمارات العربية المتحدة جهوداً ملموسة ورائدة في تنمية بدائل الطاقة للاستخدام المحلي، بحيث لا تواجه اختناقات في إمدادات الطاقة بنمو الطلب عليها مع تنامي الاقتصاد الإماراتي، وتحقق في نفس الوقت الريادة في حماية البيئة. وقد تبنت الدولة استراتيجية قائمة على الاستغلال السلمي للطاقة النووية التي تطبق أعلى معايير الأمان العالمية، فضلاً عن الاستثمار في تطوير تقنيات الطاقة المتجددة والنظيفة من خلال مشروعات مثل مدينة “مصدر”، ومحطة “شمس 1” للطاقة الشمسية التي تعتبر من أكبر وأهم المشاريع العالمية في هذا المجال.
وعلى جانب المالية العامة، بذلت دولة الإمارات جهوداً ملموسة، على المستويين الاتحادي والمحلي، لزيادة كفاءتها على جانبي الإيرادات والنفقات. واتخذت السلطات الإماراتية خطوات لتحرير أسعار الوقود بالدولة، ليتم تحديدها بصورة مرنة شهرياً، لتعكس تطورات الأسعار العالمية، وبما يسهم في ترشيد استهلاك الطاقة وتقليص الآثار الضارة لاستهلاكها الزائد على البيئة، وتقليص الاختناقات المرورية والضغوط على الطرق.
وفي الإطار ذاته، تم العمل أيضاً على تحسين أسلوب تسعير استهلاك المياه والكهرباء، بحيث تؤدي أيضاً إلى تقليل الفاقد منها، وترشيدها، وتقليص الضغوط على قطاع الطاقة التي تستخدم بكثافة في تحلية المياه.
كذلك، تم تعزيز مصادر الإيرادات الحكومية وتوفير الموارد اللازمة لتطوير وصيانة البنية التحتية من خلال انتهاج نظم حديثة لتحصيل رسوم لخدمات حكومية أساسية، سواء في استخدام الطرق المرورية المتطورة، أو المواقف، إضافة إلى تطوير شبكات متميزة من المواصلات العامة، والعمل على تطوير خطوط السكك الحديدية.
نظرة مستقبلية
من المنتظر أن تستمر دولة الإمارات في أخذ زمام السبق في تطوير اقتصادها بالتنويع الاقتصادي بعيداً عن قطاع النفط، وبالعمل على تشجيع الاستثمار الخاص المحلي والخليجي والأجنبي. ويُنتظر في هذا الإطار أن تعمل الدولة على دعم مزاياها التنافسية الجاذبة لهذه الاستثمارات، بتطبيق أفضل التقنيات في مجالات الاتصالات، وتطوير شبكات الطرق والمطارات والموانئ، والسكك الحديدية، لتحقق المزيد من التقدم والريادة العالمية. كما يُنتظر أن تعمل الدولة على تطوير أسواقها المالية، لتصبح مركزاً مالياً عالمياً، وأن توفر من خلال هذه الأسواق أدوات مالية متقدمة في مجالات مثل التمويل الإسلامي على سبيل المثال.
كذلك، يمكن أن يتم مستقبلاً دعم الدور الرائد للقطاع الخاص، حتى في الخدمات الأساسية بالدولة، من خلال تزايد الاعتماد على تطبيق أسلوب “الشراكة بين القطاعين العام والخاص“، في تنفيذ المشروعات الكبيرة. ويُنتظر أيضاً أن تكثّف الدولة من جهودها لتطوير المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بحيث تكون مصدراً رئيسياً لإيجاد الفرص الاقتصادية للشباب المبتكرين، ولإيجاد فرص توظف ومساهمة اقتصادية بناءة للشباب بصورة عامة، وبما يتواكب أيضاً مع التوجه الراهن لتطوير نظم التعليم بالاعتماد على التقنيات الحديثة وتطوير المناهج والتدريب المهني بما يتماشى مع الاحتياجات المستقبلية لسوق العمل ما بعد النفط.
أما بالنسبة للمالية العامة، فيمكن أن تعمل الدولة على إدخال المزيد من التطوير في مجال تنويع مصادر الإيرادات، وذلك دعماً لجهودها في تقديم الخدمات الأساسية المتقدّمة للمواطنين والمقيمين بالدولة، وذلك من خلال البدء في تطوير نظم ضريبية حديثة، قد تبدأ بضريبة القيمة المضافة، التي يمكن أن يتم العمل على تطبيقها بصورة تنسيقية بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة.
ومن المنتظر أيضاً أن تعمل الدولة على تطوير سوق الأوراق المالية الحكومية، وتوفير الأدوات المالية المناسبة للحد من المخاطر في محافظ الاستثمارات المالية، وأن تتوافر الوسائل الفعَّالة ذات التكلفة المنخفضة لتمويل الأنشطة الحكومية ولإدارة السياسات الاقتصادية بالدولة.
وأخيراً، يُنتظر أن تعمل دولة الإمارات مع باقي دول مجلس التعاون الخليجي، من أجل تطوير السوق الخليجية المشتركة، لإنجاز المستهدف منها من حرية انتقال المواطنين ورؤوس الأموال والسلع، وتحقيق المزيد من التعاون والتنسيق لتشكيل استراتيجيات خليجية متسقة للمنطقة ما بعد النفط.
ختاماً، مع الاستمرارية المتوقعة في جهود تطوير وتحديث الخدمات الرئيسية التي توفرها دولة الإمارات العربية المتحدة، والعمل على تقديم الفكر المتطور والطموح من خلال منح مسؤوليات متزايدة لشباب المواطنين، والتعامل مع التحديات الاقتصادية كمصدر إلهام لتطوير الاقتصاد الإماراتي ومنحه الريادة، من المتوقع أن تكون المرحلة الراهنة من تقلبات أسعار النفط داعمة رئيسية للرؤية الاقتصادية التي انتهجتها دولة الإمارات من مراحل سابقة للتراجع الأخير لأسعار النفط، وأن تؤدي إلى أثر إيجابي ملموس على الاقتصاد الإماراتي في الأجلين المتوسط والطويل.
د. أحمد الصفتي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المستقبلية