تردد واشنطن في سوريا.. ضعف أم استراتيجية

تردد واشنطن في سوريا.. ضعف أم استراتيجية

الموقف الأمريكي من الأزمة السورية

على مدى الأشهر الأخيرة اتخذت إدارة أوباما نظرة ضيقة الأفق تجاه الصراع الدائر في سوريا، ما انجرت عنه نتائج سيئة بالنسبة إلى موقع أميركا في الشرق الأوسط. وفي فورة من النشاط والتصريحات ركز جون كيري وزير الخارجية الأميركي على الموت والدمار في سوريا ليعطي الأولوية لوقف إطلاق النار قبل أي شيء آخر. وفي أعقاب تعليق محادثات جنيف وصل هذا المجهود ذروته هذا الأسبوع، ولكن هذه المرة عبر إعطاء الأولوية للجانب الإنساني. وتملك إدارة أوباما مفتاح الحل لسلام دائم ألا وهو إزاحة بشار الأسد ونظامه من الحكم.

وكان كيري قد صرّح في اجتماع انعقد في شهر ديسمبر الماضي في موسكو بأنه لم يعد يعتبر تغيير النظام السوري شرطا مسبقا ضروريا لإنهاء الصراع، بما أن الولايات المتحدة “لا تسعى إلى تغيير النظام في سوريا بالشكل المعروف”. ومؤخرا، كرر جون كيربي المتحدث باسم وزارة الخارجية وجهة نظر رئيسه مجادلا بأنه “عند المقدرة على إجراء المحادثات… يمكنك البدء بتناول المسائل ذات الأهمية الكبرى… وهي وقف إطلاق النار ووصول المساعدات الإنسانية”.

الانزياح نحو موسكو

مما لا شك فيه أنه وبعد سنوات من الجمود، لا يفسر التغيير في الموقف الأميركي بخصوص مصير الأسد بصحوة إنسانية مفاجئة، بل يكمن الجواب في تجنب أوباما لاستعمال القوة وصعود الدولة الإسلامية. كما أدت الهجمات المذهلة في باريس وسان برناردينو إلى إثارة الرأي العام الأميركي، وأعطت الحملة ضد داعش دفعا جديدا، وأجبرت أوباما على إعادة النظر في ادعائه بأن داعش تم احتواؤه.

لكن بدل التوجه نحو إزاحة الأسد عن السلطة والقضاء على أداة داعش الأولى في تجنيد المقاتلين (وهو تعهد يتناقض مع حملة الرئيس في اتجاه إنهاء الحروب في الشرق الأوسط)، توجه أوباما إلى روسيا وإيران في محاولة منه لإنهاء الحرب الأهلية. فبعد إقدام الرئيس الأميركي على إبرام الاتفاق النووي مع إيران يأمل الآن في أن يعيد استخدام الآلة الدبلوماسية من جديد.

تقدم النظام الأخير في المناطق المحيطة بحلب يؤكد أن الأسد لا يريد فقط رواقا يمتد بين دمشق واللاذقية

لاحظ فلاديمير بوتين الرئيس الروسي ذلك، واستغل وزير خارجيته سيرجي لافروف الرؤية المتحيزة للإدارة الأميركية عبر التلميح إلى التعاون المستقبلي في سوريا، مما دفع أوباما إلى التفكير في يوليو الماضي في “فرصة إجراء حديث جدي”. وتوقع أن يحدث في ديسمبر “تغيير في حسابات الروس″، ثم تبين أن هذه الفرص والتغيرات واهمة تماما، في ظل ما يتم رصده على الأرض. إذ تقوم الطائرات المقاتلة الروسية بقصف مواقع المتمردين المناهضين للأسد بينما يدير النشطاء الإيرانيون الحرب على الأرض.

وإلى حد الآن يبقى تحذير أوباما بأن روسيا ستتورط في مستنقع، وأن العملية التي تقودها لن تنجح مجرد تعبير صارخ عن الإيمان بالذات لا غير.

إذ وعلى عكس هذه التصورات والتحذيرات التي أطلقها الرئيس الأميركي، يعيد بشار الأسد بسط نفوذه تحت حماية إيرانية – روسية على مساحات شاسعة من غرب سوريا. ودفعت هذه الحقائق الدموية على الأرض الولايات المتحدة للانزياح بثبات نحو موسكو في مسألة مستقبل سوريا السياسي، وهو استسلام تلبسه ثوب الحاجة الإنسانية الملحة.

والآن يؤكد تقدم النظام الأخير في المناطق المحيطة بحلب بأن الأسد لا يريد فقط رواقا يمتد بين دمشق واللاذقية، وإنما يسعى بالفعل إلى استرجاع كل شيء. بذلك يتبين أن التنازلات الأميركية الهادفة إلى إطلاق العملية السياسية، لم تؤد إلا إلى تغذية رغبة الأسد في النصر التام.

إن استراتيجية أوباما المتمثلة في استلاف القوة الروسية والإيرانية هي مهمة غير مجدية، فهي لن تفضي إلا إلى التنازل عن شرق المتوسط لفائدة موسكو وطهران، وتضمن بقاء الأسد الدائم، وتقوي الدولة الإسلامية وحزب الله في حين تفرغ المعارضة السنية المعتدلة.

السبيل إلى القضاء على داعش يبدأ من دعم الحلفاء التقليديين مثل تركيا والمملكة العربية السعودية ضد روسيا وإيران

دعم الحلفاء السنة

المقاربة الأفضل تتمثل في الاعتراف بأن الشرق الأوسط هو أشبه بنظام متشابك منه بصوامع منفصلة. يتشابك وضع الأسد مع وضع داعش الذي يتغذى على مذابح الأسد من أجل تجنيد المقاتلين بين السنة وإيجاد ملاذ آمن. السبيل إلى القضاء على داعش يبدأ من دعم الحلفاء التقليديين مثل تركيا والمملكة العربية السعودية ضد روسيا وإيران في مطلبهم بضرورة رحيل الأسد. لأنه فقط من خلال إزاحة الأسد يمكن انتظار تألب الحلفاء التقليديين وسنّة شمال الشرق الأوسط على داعش.

عندما يحاصر الأسد المناطق الواقعة تحت سيطرة المتمردين على الولايات المتحدة أن تزودها بالمؤن عن طريق جسر جوي، وعندما تتحالف طوائف كردية مع روسيا والأسد في شمال سوريا، علينا أن نتصدى، وعندما تتنمر روسيا على المعارضة في المفاوضات علينا أن نقف إلى جانب أصدقائنا.

كل هذا يتطلب الرجوع إلى استخدام الأدوات التقليدية في الحكم. لقد أثار أوباما مرارا وتكرارا شبح تدخل على الطريقة العراقية عند تبرير نأي الولايات المتحدة بنفسها تجاه المسألة السورية، حتى أنه في بعض الأوقات عرّف تجنب الصراع بأنه مصلحة أمنية قومية. ويلاحظ أن إدارة أوباما تلجأ بشكل متزايد إلى الالتواءات لتبرير نشر الجنود في المنطقة. ولكن مثلما برهن بوتين، بأن الدبلوماسية لا تتعلق فقط بالأفكار بل تقوم على الحقائق المملومسة على الأرض، وهي حقائق أكدها بنشر جنود روس بقدر متواضع نسبيا في الأراضي السورية. ولم يفت الوقت بعد على الولايات المتحدة لتقوم بالتنسيق مع حلفائنا العرب السنة وتركيا لفرض منطقة حظر جوي ومناطق آمنة لإعطاء المتمردين السنّة المعتدلين، والمعارضة السياسية منصة وثب يمكنهم انطلاقا منها دحر داعش وهزم الأسد. لكن الوقت ذو أهمية جوهرية، إلا إذا كنا مستعدين للتنازل عن دورنا القيادي في المنطقة الذي استمر لعقود لروسيا وإيران. وفي تلك الحالة ستحدث أكبر كارثة إنسانية على الإطلاق.

وفيما تواصل القوات السورية ، المدعومة من روسيا محاصرة مدينة حلب، التي تعد احد المعاقل الهامة للثوار السوريين، تزداد الريبة من النهج الذي يتبناه الرئيس الأميركي، باراك أوباما إزاء تطور الأحداث. وهو ما اعتبره الكثير من المتابعين صمتا أميركيا غير مبرر في ظل وعي الرئيس الأميركي أنه ما لم توجه الولايات المتحدة رسالة واضحة إلى الجانب الروسي، فإن نظام الأسد المدعوم من موسكو سينجح في التوسع على حساب مساحات كبرى من سوريا على حساب المعارضة التي تبدو غير قادرة على مجارات الحملات العسكرية الروسية. وبالتالي قد تصبح محادثات السلام التي ما تزال الولايات المتحدة تروج لها عديمة الجدوى وقد تفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة.

صحيفة العرب اللندنية