الشعبوية ليست بديلاً عن الديمقراطية

الشعبوية ليست بديلاً عن الديمقراطية

الديمقراطية

كثيراً ما يغيب عن المرء التمييز بين الشعبوية والديمقراطية فيخيل إليه أنه يعالج الأمور العامة بميزان ديمقراطي بينما هو في الحقيقة يستعين في تقييمه لها بمعايير شعبوية، والعكس بالعكس.
ولقد اشتدت هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة، خاصة في إطار الجدل حول قضية الهجرة والمهاجرين، وتحولت إلى أرض جدل فكري وسياسي عميقين، وإلى صراع ونقاش ساخن حول مستقبل الاتحاد الأوروبي بين تيارين رئيسيين داخل الاتحاد الأوروبي:
الأول الذي يضم النخب السياسية الأوروبية، خاصة في أوروبا الشرقية وبريطانيا، التي تدعو إلى إعادة النظر في سياسة التساهل والباب المفتوح تجاه المهاجرين، وإلى الانتقال إلى سياسة جديدة تصل، في نهاية المطاف، إلى التراجع عن العديد من المشاريع والخطوات التي خطتها الدول الأوروبية في بناء الاتحاد الأوروبي.
الثاني، الذي يشمل النخب السياسية في بقية مناطق الاتحاد ممن تفضل السير بالمشروع الأوروبي إلى الأمام، ولكن مع شيء من التباطؤ بقصد إعطاء المجال أمام الدول بغيرها من الدول المتقدمة.
وبصرف النظر عن المشهد الأوروبي الراهن، فإن الافتقار إلى التمييز الدقيق والواعي بين مفهومي الشعبوية والديمقراطية لم يبدأ مؤخراً، بل منذ سنوات كثيرة، وكذلك فإنه لم ينحصر في منطقة معينة من العالم ومجالات محددة فيها، بل انتشر في شتى البلدان، أو المجالات، وفي أكثر الحالات على نحو يعطل الانتقال إلى النظم الديمقراطية، ومن ثم ترسيخها وتنميتها.
وخلال عقود ماضية غلب على الشعبوية الطابع الاقتصادي، كما لاحظ توماس بوتومور، أستاذ العلوم الاجتماعية البريطاني الراحل.
وشدد بوتمور على ثلاث مدارس اتبعت هذا النهج: فهناك المدرسة الروسية التي كانت تعبر إلى حد بعيد عن نزعة العداء للرأسمالية المتفشية بين الملاكين الزراعيين الروس.
وقد دعا مفكرو هذه المدرسة إلى تحويل روسيا إلى دولة صناعية من دون المرور بالطريق الرأسمالي، والاعتماد على الكوميونات الروسية من أجل إقامة مجتمع مساواة مطلقة بين الأفراد.
المدرسة الثانية، انتشرت في أمريكا اللاتينية بين الملاكين الزراعيين أيضاً ولكنها دعت إلى تحالف هؤلاء مع الطبقات والفئات الاجتماعية المهمشة من اجل إنجاز الانتقال إلى مجتمع صناعي ومتقدم.
أما المدرسة الثالثة، فهي التي انتشرت في جنوب الولايات المتحدة بين الملاكين الزراعيين أيضاً، ولكنها لم تصل إلى مستوى الراديكالية الذي وصل إليه نظراؤها في أمريكا اللاتينية وروسيا.
ينتمي إلى هذه المدرسة الأخيرة عدد من السياسيين الأمريكيين الذين دخلوا المجال العام، وخاضوا معارك ضد النخبة السياسية الأمريكية التي كانت تمثل المصالح المهيمنة تقليدياً على الاقتصاد وعلى المؤسسات الحاكمة.
وإلى هؤلاء ينتمي دونالد ترامب، المرشح الجمهوري للرئاسة والذي يتوقع مراقبون أن ينجح في الحصول على تبني الحزب الجمهوري له.
وينتمي ترامب، شخصياً، إلى فئة الرأسماليين الذين بنوا ثروتهم من المضاربات العقارية. والجزء الأكبر من هذه الثروة ورثه من أبيه لكي يكمل طريقه ويضاعف ثروته.
إذاً، ترامب لا ينتمي إلى الملاكين الزراعيين الكبار الذين يشكون في الأوليغاركية الرأسمالية ويسعون إلى الحد من ثرائها.
إنه بالعكس، واحد من هؤلاء.
ولكن ترامب الذي أتى إلى الحقل السياسي من خارجه والذي يجهل مداخله ومخارجه، والذي يفتقر في الحقيقة إلى «التسيس»، يعوض عن هذا النقص بالتعبير عن مشاعر وتطلعات الأمريكيين مثله، ومنهم الكثيرون من الملاكين الزراعيين، ومن الأمريكيين الذين ينتمون إلى الطبقتين المتوسطة والشعبية ولا يثقون بالنخبة الحاكمة في واشنطن.
إن الكثيرين من الصنف الأخير من الأمريكيين يؤيدون المرشح «الديمقراطي» الاشتراكي بيرني ساندرز، ولكن التنافس على أصوات الناخبين الأمريكيين لا يتركز في المجال الاقتصادي البحت، إذ تلعب الاعتبارات السياسية والمشاعر والتطلعات الدينية والعوامل الإثنية والعرقية والجندرية دوراً مهماً في التأثير في الناخبين الأمريكيين.
ففي دراسة أجرتها مؤسسة بيو للإحصاءات، تبين أن الأمريكيين المسيحيين البيض قد أصبحوا أقلية في الولايات المتحدة.
إن هذه الإحصاءات، إضافة إلى انتشار العمليات الإرهابية في المجتمعات الغربية، ولو على نطاق محدود، كل ذلك يثير مخاوف كثيرة لدى الأمريكي العادي الذي ينحدر من أصول أوروبية.
وبين هؤلاء نسبة عالية من الأمريكيين والأمريكيات من هم على استعداد للتغاضي عن العجز الديمقراطي الذي يعانيه بعض المرشحين، وعن شعبويتهم لقاء ميلهم المعلن إلى تنمية القدرات العسكرية الأمريكية، وإلى إعلانهم التزامهم بسياسة القوة من أجل محاربة أي خطر يهدد الولايات المتحدة، ودول الغرب بصورة عامة.
ينطلق أنصار الشعبوية الاقتصادية والسياسية من الاعتقاد بأن الديمقراطية لا تضمن استمرار الرفاه الاقتصادي للدول الغربية ولا أمن الغرب واستقراره.
لذلك يبحثون عن البدائل في أنظمة أخرى.
وهذه النظرة لا تنحصر في أوساط معينة في دول الغرب فحسب، بل إنها منتشرة أيضاً في المنطقة العربية أيضاً، في الأوساط الرسمية والشعبية.
والذين يعتنقون مثل هذه النظرة لا يتوقفون عند النجاحات الأمنية والاقتصادية التي حققتها الدول الديمقراطية في العالم، ولا حتى تلك التي تحققها اليوم دول تبني رخاءها وأمنها من دون أن تلجأ إلى استخدام العنف ضد الآخرين إلا في مجال الدفاع عن النفس.
ولكننا الآن وفي ضوء نجاح هذه التجارب، والإخفاق الشديد الذي تعانيه مجتمعاتنا في إيجاد حلول سليمة لقضايا الأمن والرفاه خارج إطار الحكومات التمثيلية، في ضوء ذلك بات من الضروري أن نراجع قناعات أخذنا بها من دون مسوغ سليم.

د.رغيد الصلح

صحيفة الخليج