الثوابت الاستراتيجية في أعقاب إعادة التموضع العسكري الروسي في سورية تشمل التالي: أولاً، استمرار الشراكة الأميركية – الروسية في الرقعة السورية وتوسيع بيكارها في اليمن والعراق مع توظيف ما تبقى من ولاية باراك أوباما لتوطيد الإنجازات في العلاقة الثنائية. ثانياً، ترسيخ النظام الحاكم في سورية عبر مؤسسات الدولة، بالذات الجيش، وليس عبر التمسك بالأفراد في المناصب، مع فسح المجال لتغييرات جذرية في معادلة الحكم على نسق إيلاء قيادة الجيش، مثلاً، إلى أحد أركان الطائفة العلوية بدلاً من أن تكون للعلويين الرئاسة. ثالثاً، الحفاظ على العلاقة الاستراتيجية البعيدة المدى مع إيران إنما مع توسيع آفاق التقارب مع الدول الخليجية إلى جانب مصر والجزائر وذلك بهدف إقامة توازن في العلاقات الروسية مع السُنَّة العرب كي لا تبدو موسكو حليفة الشيعة في إيران فقط. رابعاً، فسح المجال لقوات سنّية لتدخل ميدانياً الحرب على «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية لتكون بمثابة «الأقدام على الأرض» في استراتيجية التحالف الدولي لسحق «داعش» التي قد تتطوّر لتكون ذات قيادة أميركية – روسية مشتركة في المنطقة بما فيها سورية. خامساً، تحصين الداخل الروسي والجيرة الروسية من عمليات انتقامية ستترتب على استمرار نصب روسيا نفسها في واجهة الحرب على التطرّف السنّي بالشراكة مع ميليشيات شيعية تابعة لطهران. لذلك أتى القرار بتدارك التورط في مستنقع كهذا في سورية. سادساً، تمتين مكانة روسيا في المشهد العالمي كقوة أساسية في صنع القرار، وتمتين حس الكرامة والعنفوان بتداخل مبرمج مع إنماء حس القومية الروسية. سابعاً، استدراك التداعيات الاقتصادية على روسيا لو استمرت في التدخل العسكري الكامل في سورية من دون استراتيجية خروج علماً أن قيمة الروبل الروسي كانت في انخفاض مؤذٍ للاقتصاد وأن أسعار النفط والغاز في تراجع. ثامناً، الحرص على توظيف الفرص المتاحة عبر المصالحات والتسويات من أجل الدفع نحو الاستثمارات وفتح الأسواق وبيع الأسلحة للدول الخليجية. وتاسعاً، تمترس روسيا في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية ومقابل أوروبا وحلف شمال الأطلسي.
قرار الرئيس فلاديمير بوتين أعاد التموضع في سورية عبر انسحاب جزئي تدريجي لقواته أتى في خضم أجواء تفاوضية وتصعيدية وكلام عن الفيديرالية في سورية. أتى في حين كان وزير الخارجية سيرغي لافروف يعلن «امتلاك موسكو دلائل على وجود عسكري تركي داخل الأراضي السورية»، وفيما كانت موسكو تتوعد أنقرة إذا استمرت في نقل السلاح إلى سورية. وجاء القرار في أعقاب زيارة رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو إلى طهران واجتماعه بالرئيس حسن روحاني وسط كلام عن وساطة إيرانية بين روسيا وتركيا مقابل وساطة تركية لتحسين العلاقات السعودية – الإيرانية.
تزامن إعلان بوتين عن استراتيجيته الشرق أوسطية مع ازدياد التنسيق الأميركي – الروسي في الشأن اليمني بمؤشرات على توافقهما على أولوية الأمن السعودي على الحدود السعودية – اليمنية بضمانات مشتركة تشمل تأثيرهما على طهران كي لا تبعث مستشاريها العسكريين وميليشياتها إلى اليمن كما أوفدتهم إلى سورية.
الديبلوماسية الروسية تريد إنجاح الزيارة المرتقبة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو والتي تشكل مفتاحاً رئيسياً لعلاقات متطورة مع الرياض والعواصم الأخرى لدول مجلس التعاون الخليجي. تريد البناء على ما تم إنجازه أثناء زيارة أمير قطر الأخيرة إلى روسيا والتي تنحصر أهميتها في مستقبل الغاز الذي تعتبر الدولتان وإيران أكبر المصدرين له. فلقد شملت التطرق إلى توافق أنقرة والدوحة على دعم جماعة «الإخوان المسلمين» ومعارضة موسكو القاطعة لصعود هذه الجماعة إلى السلطة في أية بقعة عربية وإسلامية، وأولها سورية. ولقد أوضحت الديبلوماسية الروسية للديبلوماسية الخليجية أنها جاهزة لقلب صفحة العداء لسياساتها الماضية في سورية مقابل تعاونها الفاعل والملموس في سحق التنظيمات الإرهابية وفي قطع الطريق على صعود الجماعات الأصولية المتطرفة إلى السلطة. وما تصريح الديبلوماسي المخضرم سيرغي لافروف الذي أشاد فيه بجهود السعودية معبراً عن امتنانه لنجاحها في تسهيل تشكيل مجموعة معارضة سورية جدية سوى مثال على ما طرأ على السياسة الروسية في الآونة الأخيرة.
إشادة لافروف بالجهود السعودية أتت بعدما وصل وفد المعارضة إلى جنيف لإجراء المفاوضات التي يديرها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا وسط تصريحات لوزير الخارجية السوري وليد المعلم أنه ممنوع التحدث عن مستقبل بشار الأسد فهو «خط أحمر» ووسط إعلان رئيس الوفد الحكومي للمفاوضات بشار الجعفري رفض دمشق بحث أية «مرحلة انتقالية».
هذه التصريحات هي بمثابة ورقة نعوة لـ «عملية فيينا» التي تُعتَبَر طفل الديبلوماسية الروسية. وسبقت ذلك مواقف لدمشق اعتبرت موسكو أنها تطال من صدقية سياستها، تمثلت بعجزها عن إيقاف تدفق البراميل المتفجرة وبتلقيها أنباء أن دمشق تنوي إجراء انتخابات برلمانية تتعارض مع البرنامج الزمني لـ «عملية فيينا» التي يُفتَرض أن تنتهي بانتخابات بعد 18 شهراً بعد صياغة دستور ومفاوضات على عملية سياسية انتقالية في سورية.
كل تلك التعجيزات الآتية من دمشق كانت لها نكهة الرغبة في إطالة التدخل العسكري الروسي إلى حين تنفيذ أجندة في ذهن بشار الأسد. وهذا ما لم يرغب فلاديمير بوتين بتلبيته. فالرئيس الروسي أنقذ حقاً بشار الأسد بتدخله العسكري في سورية. لكنه تدخل عسكرياً متأبطاً استراتيجية خروج وليس استراتيجية الانزلاق إلى مستنقع سوري، ربما يتمناه له الغرب، بحسب تصوره. هذا أولاً. ثانياً، إن الركيزة الأساسية للتدخل العسكري الروسي في سورية هي المصالح الاستراتيجية المتمثلة بالقواعد العسكرية وبمؤسسات النظام، لا سيما الجيش، وليس بإبقاء رجل في السلطة.
هذا لا يعني أبداً أن بوتين جاهز الآن للتخلي عن الأسد. فهو يبقى مهماً في حسابات بوتين. الواقعية تفيد أن براغماتية بوتين الأميركية الطبع تجعله جاهزاً للاستغناء عن الأسد في استراتيجية المصالح البعيدة المدى، إذا برزت الحاجة. صحيح أن بوتين حريص على سمعة الولاء للحليف المضادة لسمعة الخيانة التي تميّز السياسة الأميركية، إلا أن الرجل يفهم تماماً لغة المصالح وحياكة التفاهمات.
ولأن تركة فلاديمير بوتين في الدول التي تدخّل فيها عسكرياً، هي تركة التقسيم، يخشى البعض أن هذه ستكون تركته في سورية. لكن الواقع الجغرافي – السياسي قد يمنع التقسيم بمعناه الكامل في سورية ليتم الاكتفاء بنموذج الفيديرالية الذي هو ما تتبناه أميركا وروسيا وسويسرا، باختلاف التطبيق.
ما يهم فلاديمير بوتين هو ماذا ستكون السياسة الأميركية نحوه بعد رحيل باراك أوباما عن البيت الأبيض؟ وكيف سيصيغ علاقاته مع أوروبا في ضوء العقوبات المفروضة على روسيا بسبب تجاوزاتها في أوكرانيا؟ وماذا سيتطلب إنقاذ الاقتصاد الروسي الذي دفع غالياً ثمن سياسة المغامرة السياسية والعسكرية التي اعتمدها بوتين؟ وكيف يمكن المضي بتحقيق التعهد بسحق التنظيمات الإرهابية الإسلامية؟
بغض النظر عن تاريخ العلاقة الأميركية – الروسية عند بدء عهد باراك أوباما، فما وصلت إليه العلاقة الثنائية لدرجة الشراكة في سورية ونحو إيران ليس هامشياً. إنه تغيير جذري في علاقة البلدين وهو أيضاً نقلة نوعية في علاقة كل منهما باللاعبين في منطقة الشرق الأوسط.
أوباما قدّم الولايات المتحدة أمام فلاديمير بوتين على أنها «العجوز» غير القادرة وغير الراغبة في لعب دور القيادة العالمية وأوحى له أن ساحة العجز جاهزة أمامه لملئها. قفز بوتين إلى الفرصة ووجد فيها ما يناسبه فاستفاد. إنما الآن حان وقت التوقف عن الاندفاع لأن في طيّات الدعوة الأميركية مشروع توريط في مستنقع يسلب روسيا ما حصدته في عهد أوباما. ولذلك أتى الاستدراك.
هذا الاستدراك مفيد أن تأخذ به الأطراف الأخرى المشاركة في حرب سورية، وبالذات «حزب الله». إيران واعية لمعاني القرارات الروسية وهي تنخرط في أجزاء مهمة منها تحيك بدورها استراتيجيات الخروج والبقاء. اللاعب الخارج عن هذه الحسابات هو «حزب الله» الذي لا يعي بعد تداعيات توريط نفسه في سورية واليمن حينما الآخرون يستدركون. وربما أفضل ما يفعله من أجل نفسه ومن أجل لبنان هو أن يبادر بدوره إلى صياغة استراتيجية خروج من سورية.
راغده درغام
صحيفة الحياة اللندنية