يعيدنا موقف الصمت الغربي لمشهد قتل المواطن الفلسطيني -على سبيل المثال وليس الحصر- عبدالفتاح الشريف يوم الخميس الماضي في مدينة الخليل الفلسطينية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، في المقابل التنديد الغربي بالتفجيرات الإرهابية التي ضربت باريس في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وبروكسل في الشهر الحالي، إلى إزدواجية المعايير التي تطبقها الدول الغربية في مجال حماية حقوق الإنسان. هذا الصمت عن قتل المواطن الفلسطيني يأتي في إطاره “الطبيعي”! لتلك الدول التي طالما وظفت مفاهيم حقوق الإنسان بشكل انتقائي بما يخدم مصالحها العليا. ومن هذه المفاهيم حق “التدخل الدولي الإنساني” وحق “تقرير المصير” غير آبهة بمصائر الشعوب، وفي هذا السياق تأتي عملية القتل هذه، لنبين التلاعب الذي تمارسه الدول الكبرى في مجال مفاهيم حقوق الإنسان.
لم تقتصر التحولات السياسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي شهدتها الجماعة الدولية على تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار المنظومة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية فقط، بل انسحبت أيضا على مفاهيم تتعلق بالقانون الدولي العام حيث وظفت سياسياً بما يخدم مصالح منظومة الدول الرأسمالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية التي تري في نهاية الحرب الباردة انتصارا لها.
ومن هذه المصطلحات، مصطلح حقوق الانسان حيث استطاعت تلك المنظومة توظيفه على مستويين استرجاعيين. الأول، حيث عملت على استرجاع مبدأ التدخل الدولي الانساني الى السياسة الدولية المعاصرة، ويهدف ذلك المبدأ الى الحد من انتهاكات حقوق الانسان التي يتعرض لها مواطني الدولة محل التدخل. لكن ما يلاحظ على هذا المبدأ من خلال الممارسة العملية له الانتقائية في تطبيقه من قبل الدولة العظمى( الولايات المتحدة الأمريكية) والدول الكبرى التي غلبت الاعتبارات الإستراتيجية على الأخلاقية في ممارساتها للتدخل الدولي الإنساني. فتطبيقاته بحجة حماية الاكراد من انتهاكات نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتدخل في الصومال وبذريعة انهيار الدولة والمجاعة الإنسانية، والتدخل في البوسنة والهرسك، لوقف الانتهاكات التي كان يتعرضون لها من قبل الدولة الصربية. كل تلك التدخلات كانت لإعتبارات استراتيجية، ففي حالة العراق أنتقص التدخل الامريكي البريطاني الفرنسي من سيادته وكان سببا في احتوائه وإضعافه لينتهي الى احتلاله في 9 نيسان/إبريل عام 2003م، أما التدخل الأمريكي في الصومال فكان دافعه السياسي التأكيد على الانفراد الامريكي في مقدرات النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والاقتصادي نقل كميات هائلة من “الألماز” الصومالي، أما الاستراتيجي احكام سيطرتها على مداخل البحر الأحمر وبعد اتمام مهامها الانسانية الفاشلة ،انسحبت من الصومال، لتعمق من عملية انهياره المستمر الى يومنا هذا.
أما التدخل حلف الشمال الأطلسي في كوسوفا جاء لطي آخر صفحة -بنظرهم- من صفحات الحرب الباردة بالتخلص من الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفتش ذو النزعة القومية- العرقية المتشددة، ووقف هجرة الكوسوفيين الذين كانوا محتشدين على تخوم اوروبا. وإذا كانت الدول الغربية بالفعل معنية كثيرا بحقوق الإنسان، فلماذا لم تتدخل في الكثير من الحروب الاهلية التي وقعت في مختلف مناطق العالم بعد نهاية الحرب الباردة؟ فلماذا على سبيل المثال لم تتدخل في وقف المذابح الانسانية التي تعرض لها الشعب الرواندي في عام 1994، والتي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون إنسان لماذا آثرت على نفسها صمت القبور، وهي تتابع ذلك المشهد الدموي ؟
إن الدولة العظمى والدول الكبرى المعنية بحماية حقوق الإنسان! لا تطبق معاييره على الدول الحليفة ولا الشركاء التجاريين كالصين على سبيل المثال، في حين فرضت على الدول الضعيفة كنيجيريا بسبب انتهاكات حقوق الانسان فيها سلسلة من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية واستمرت ست سنوات من عام 1993 الى 1999 ، أما الدول المناوئة لسياساته، كالعراق فرض عليه معيار ما بعد الحداثة في مجال حماية حقوق الانسان! وهو التدخل الدولي الانساني والذي استمر من عام 1991 الى 2003.
وبعد الاحتلال العراق بدأت المؤسسات الفكرية والبحثية الغربية تتداول مفهوم جديد وهو “العدالة الانتقالية” كصيغة متطورة عن التدخل الانساني وأسلوب جديد للهيمنة باسم حقوق الانسان. فالغرب الذي يبدع في التعددية السياسية والتقدم الاقتصادي والتطور العسكري والتكنولوجي، لن يعجز على إعادة تشكيل المصطلحات القانونية التي تخدم مصالحه لاسيما اذا وجدت تلك البيئة التي تشجعه على ذلك.
أما المصطلح الثاني، فهو حق تقرير المصير. وتصنفه أدبيات حقوق الانسان على أنه من الحقوق الانسانية الجماعية، وقد عرفه فقه القانون الدولي العام وأساتذة العلاقات الدولية على أنه “حق” كل شعب في اختيار شكل حكومته ونظامه السياسي بحرية كاملة ودون أي تدخل خارجي، والإفادة من ثرواته الطبيعية والتمتع بتراثه الروحي والمادي دونما قيد وعلى النحو الذي يريده.
وقد ظل مبدأ حق تقرير المصير وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية مبداً سياسياً ذو قيمة أدبية. لكن سرعان ما أضحى بعد قيام هيئة الأمم المتحدة في العام 1945م، مبدأ قانونياً يرقى الى مصاف القواعد القانونية الآمرة التي لايجوز مخالفتها. ولعل ما يدلل على ذلك، حرص واضعي ميثاق الأمم المتحدة على الإشارة إليه في المادة الاولى الفقرة الثانية بالقول” إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام”.
ولأهمية هذا الحق حق أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة قرارات للتأكيد عليه، ومنها قرار رقم 1514 الصادر في 14-12-1960، الذي جاء بعنوان” إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة” والذي نص صراحة في الفقرة الثانية من مقدمة القرار ما يلي ” لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها- بمقتضى هذا الحق- أن تحدد ، بحرية مركزها السياسي، وتسعى بحرية إلى تحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي” وقرار رقم 2625 والصادر بتاريخ 24-10-1970، و بالإضافة الى المادة الاولى الفقرة الاولى في كل من العهديين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، فقد أكدتا على مضمون الفقرة السابقة.
ويستخلص جانب من فقهاء القانون الدولي من تلك الاعلانات بأن حق تقرير المصير حق الانسان الجماعية، موجها فقط الى حالة الشعوب الخاضعة للاحتلال أو السيطرة الاستعمارية للحصول على استقلالها، وبالتالي فلا يجوز الاحتجاج به من جانب جماعة معينة تعيش داخل الدول وبحيث لا يكون أمام هذه الجماعة- حال الافتئات على حقوقها بشكل منظم ومتعمد- سوى العمل على كفالة هذه الحقوق من مدخل حقوق الانسان ليس إلا، ومن منطلق وطني في المقام الأول. لذا ينكرون هؤلاء الفقهاء شرعية أي حق تقرير المصير يجيز أي عمل أو يشجع على أي عمل من شأنه أن يمزق أو أن يخل جزئيا أو كليا بالسلامة الإقليمية والوحدة السياسية للدول المستقلة ذات السيادة.
أما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة انتقل حق تقرير المصير من اطاره الاستقلالي الى الانفصالي، فقد قامت الدول الغربية بتسييسه حيث عملت على تدويل القضايا الداخلية داخل الدولة الواحدة وتشجيع الحركات القومية والدينية للمطالبة بالانفصال عن الدولة، بحجة انتهاك حقوق الإنسان وفي هذا السياق أجبرت الدول الغربية أندونيسيا على اجراء استفتاء في عام 1999، يحدد مصير تيمور الشرقية، وقد نظمته الامم المتحدة وأرسلت قواتها صوب تيمور الشرقية لضمان حق التيموريين في الانفصال عن أندونيسيا وحمايتهم من المليشيات الداعمة للأقلية المتمسكة بالوحدة معها، وبالفعل انفصلت تيمور الشرقية عنها، كما شجعت الدول الغربية انفصال جنوبي السودان عن الدولة الأم.
ونتساءل هنا، وأمام مشهد القتل شبه يومي في فلسطين منذ احتلالها وإلى يومنا هذا: لماذا لا تحظ قضية الشعب الفلسطيني المحتل وهي أقدم قضية قانونية وسياسية وإنسانية في تاريخ الأمم المتحدة بحق تقرير المصير، احتلال يسعى لمصادرة الأرض والهوية والإنسان؟ ما هي الظروف الذاتية التي توافرت لدى الشعوب الأخرى ولم تتوفر لدى الشعب الفلسطيني؟، وهنا لا بد من القول والتذكير، يخطيء من يظن بأن القضاء على تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” يعني القضاء تماماً على الإرهاب في بيئة الشرق الأوسط، فمن أجل التخلص منه بشكل نهائي يتطلب ذلك إعادة الاعتبار لمفهوم حقوق الإنسان من خلال إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. لأن هذا الإرهاب أحد مخرجات سياساتهم في العالم العربي.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية