لم تكن المسألة وليدة الساعة ،ولم تكن تنطلي على احد حيل الفاسدين الذين سرقوا خيرات البلاد منذ اكثر من 13 عاما ،لكن الاهم ان هذه السرقات لن تبقى طي النسيان الى الابد ،وستتوالى تباعا لكل جديد وهو ما نراه اليوم .
لقد تناول مركز الروابط خلال الفترة الماضية العديد من الوثائق التي تثبت تورط شخصيا وجهات حكومية عراقية في موقع المسؤولية ،ناهيك عن الصفقات المشبوهة التي تم تسليط الضوء عليها وكشف العديد من الحقائق الهامة .
و تناولنا في مقالاتنا السابقة ملف جولات التراخيص في العراق والذي يعتبر من اكبر عمليات السرقة والنهب في تاريخ العراق ،وكذلك يعتبر اكبر كارثة حلت بالعراق واقتصاده, لكن اوضاع الفوضى التي حلت بالعراق ،والتي سعت اطراف داخلية الى تأجيجها حالت دون الكشف عنها او تسليط الضوء عليها ،فكانت تحصل بسبب الاقصاء الممنهج للشخصيات الوطنية ،واغراق البلاد بأزمات اقتصادية وسياسية وأمنية لتشكل ستارا يحجب الانظار عن هذه التجاوزات والسرقات في الدولة العراقية والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات .
لقد كان لقطاع النفط النصيب الاكبر من هذه التجاوزات، فمن خلال جولات التراخيص فقد العراق الكثير من ايراداته لحساب شخصيات بمواقع رفيعة ، فقد استغلت سنوات الطفرة في اسعار النفط التي تجاوزت حاجز 115 دولار للبرميل عالميا .
ويعاني قطاع النفط في العراق منذ دخول قوات الاحتلال الاميركي لأراضيه من الاهمال ، والهدر نتيجة لغياب السياسة المهنية والفساد التي ادت الى ضياع جزء كبير من هذا المورد الهام للخزينة العراقية.
وتشير التقارير الى ان خسائر العراق من النفط المهرب والمصدّر بطرق غير شرعية إلى الخارج منذ عام 2003 قدرت بحوالي 120 مليار دولار.
تقرير دولي يهز العراق
لقد تطرقنا منذ وقت مبكر لسرد العديد من عمليات السرقة والنهب في قطاع انفط العراقي والعديد من القطاعات الاخرى ،الا انها على ما يبدو بدأت تأخذ اصداء اوسع هذه الايام ،ناهيك عن الوضع المحتقن في العراق بسبب الازمة السياسية والتظاهرات الشعبية ،والحرب على تنظيم داعش .
تؤكد تقارير ومعلومات رسمية وإعلامية صدرت خلال العام الماضي، سرقة أكثر من نصف تريليون دولار من أموال الدولة العراقية خلال فترة حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وتقدر قيمة هذه الأموال بأكثر من نصف الريع النفطي بين 2003 و2015 المقدر بـ 800 بليون دولار.
وقد كشف التحقيق الاستقصائي الذي أجراه “فيرفاكس ميديا” و”هافينغتن بوست” ونشر الأربعاء “عن آلاف الوثائق” من موقع شركة “يوناويل” المملوكة من عائلة إيرانية ومقرها إمارة موناكو.
التحقيق تناول ما وصفه بصفقات فساد تحت غطاء عقود نفطية شملت مسؤولين عراقيين رفيعي المستوى، أبرزهم وزير التعليم العالي حسين الشهرستاني الذي يشغل حاليا منصب وزير التعليم العالي ، والذي كان نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة في الحكومة السابقة ووزيرا للنفط في الحكومة التي سبقتها ، وأيضاً عبد الكريم لعيبي، وزير النفط العراقي في الحكومة السابقة، وأيضاً ضياء جعفر الموسوي، مدير شركة نفط الجنوب، وكفاح نعمان الذي تولى منصب مدير نفط الجنوب إبان حقبة وزير النفط ثامر الغضبان، وعدي القرشي أحد المسؤولين الكبار في شركة نفط الجنوب، بالإضافة إلى باسل الجراح الذي يعتبر حلقة الوصل بين المسؤولين العراقيين وشركة unaoil وهي شركة نفطية مقرها الرئيس في إمارة موناكا، وتعود ملكيتها إلى الإيراني إحساني عطا الذي غادر إيران عقب الثورة عام 1979، وفي عام 1991 أنشأ مكتب استشارات نفطية في لندن قبل الانتقال إلى موناكو.
وهنا يروي التقرير الدولي دور الشركة (unaoil ) كان يتلخص بالاتصال بالشركات النفطية الكبرى عبر العالم لضمان عقود لهم في حقول النفط العراقية عبر شبكة عملت على تأسيس الشركة الإيرانية ممن خلال الوسيط باسل الجراح، وهو عراقي مقيم بالخارج ويمتلك علاقات واسعة مع الشخصيات التي اعتلت السلطة بالعراق عقب الاحتلال الأمريكي عام 2003.
التقرير يشرح بالتفصيل كيف تمكن الجراح من بيع حقول النفط العراقية عبر الشركة الإيرانية مقابل دفع رشاوي يقدمها للمسؤولين في وزارة النفط العراقية.
ويستمر التقرير بسرد التفاصيل حول اكبر ملفات الفساد في تاريخ العراق الحديث فالملايين من الدولارات صرفت كرشاوى للمسؤولين العراقيين خلال الفترة الممتدة ما بين عام 2005 حتى عام 2014، بعضها ذهب مباشرة إلى حسين الشهرستاني وزير النفط السابق وعبد الكريم لعيبي الوزير الأسبق للنفط، بالإضافة إلى رشاوى دفعت مباشرة من قبل الجراح والشركة الإيرانية إلى مسؤولين أصغر.
المعلم “حسين الشهرستاني” هكذا وصفه التحقيق الاستقصائي بأنه أقوى الرجال، إلا أن اسمه كان عبارة عن حرف M في مراسلات الجراح والشركة الإيرانية من جهة ومراسلاته والمسؤولين العراقيين من جهة أخرى، إلا أن بعض تلك المراسلات كانت تشير له أيضاً بصفة “المعلم”.
ويتابع التقرير ان التعامل مع الشهرستاني لم يكن في عهد رئاسته لوزارة النفط في حكومة المالكي السابقة فحسب بل منذ الدورة التي سبقتها حيث كان نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الطاقة، في وقت كان الشركة تتعامل أيضاً وبشكل مباشر من خلال الجراح مع وزير النفط الأسبق عبد الكريم لعيبي.
وهنا يذكر التقرير أحد العقود التي سعت الشركة لها وهي توقيع عقد شركة هيواندي، حيث عرضت الشركة الإيرانية على هيواندي أن تدفع مبلغ 7 ملايين دولار إذا كانت ترغب بالحصول على العقد الذي تبلغ قيمته 100 مليون دولار، وهو فحوى عرض قدمه الجراح للشركة الإيرانية من أجل مخاطبة شركة هيونداي.
وبحسب التقرير فالرشوة التي تبلغ 7 ملايين دولار سيذهب جزء منها إلى المعلم “الشهرستاني” بحسب الجراح، وجزء آخر إلى شخص اسمه أحمد الجبوري يبدو أنه كان حلقة الوصل بين الجراح والشهرستاني.
في إحدى الرسائل يؤكد الجراح أن الجبوري وافق على مبلغ مليون دولار أمريكي مقابل ضمان فوز شركة بتروفاك وشركة SBM الهولندية على عقد حقول الغراف.
في عامي 2010 و2011 وافق الجراح على دفع مبلغ 20 مليون دولار للجبوري من أجل أن يسعى للتأثير على الشهرستاني واللعيبي وإقناعهم بمنح حصة في مشروع خط أنابيب النفط لصالح شركة ليتون البحرية، وهو العقد الذي تصل قيمته إلى نحو 200 مليون دولار.
وفي عام 2011 دفعت الشركة الإيرانية أكبر رشوة في تاريخها وتبلغ قيمتها 16 مليون دولار لكسب تأييد الشهرستاني من أجل الحصول على عقد خط أنابيب تقدر قيمته بنحو 600 مليون دولار.
تفاصيل ومعلومات كثيرة تم سردها في التقرير تكشف مدى التسيب والاهمال الممنهج من قبل الحكومات السابقة التي كانت بمثابة حاضنة خصبة للفساد ،وسمحت باستغلال مقدرات الشعب العراقي لحساب جهات خارجية سرقت وما زالت لخيرات البلاد وتعيث الفساد فيه .
وقد لاقى التقرير ردود فعل واسعة على مستوى العالم ، نتيجة المعلومات التي وردت في التقرير التي جعلت منها قضية فساد كبرى يجب التحرك لما لها من تداعيات دولية .
وأقدمت السلطات في موناكو على مداهمة مقر شركة يوناويل ومنازل مسؤولي الشركة وقامت باستجواب كبار مسؤوليها، بحسب بيان لسلطات الإمارة.
وأوضح البيان أن العملية جرت بطلب من مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة في بريطانيا “إنها قضية فساد كبرى وفيها تداعيات دولية”.
وأعلن مكتب العبادي أن الأخير أصدر توجيها الى هيئة النزاهة باتخاذ الاجراءات القانونية بخصوص التحقيقات الصحفية حول عقود التراخيص النفطية التي عقدتها الحكومات السابقة.
وهنا نقول ؛ ليس هذا كل شيء ! فالعراق خسر مئات المليارات من الدولارات منذ دخول قوات الاحتلال الاميركي عام 2003 ،وما رافقها من نهب وسرقات طالت كافة مقدرات البلاد ،وعلى رأسها النفط .
ونعود للتذكير بأن فترة ولاية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، كانت حافلة بقضايا الفساد والصفقات المليارية حيث امتازت هذه الحقبة بفترة وصول اسعار النفط الى ذروتها ،بالمقابل كانت البلاد ترزح تحت نير الفقر والبطالة وانعدام الامن والاستقرار وفتحت الباب على مصرعيه امام الايادي الايرانية لتصوب وتجول في البلاد دون حسيب او رقيب .
اليوم العراق يعاني من اثار الفساد الذي اطبق على كافة مفاصل الحياة في العراق ،ناهيك عن الاوضاع المالية المنهارة بسبب العجز الذي رافق الموازنات السنوية يرافق ذلك غياب التنمية واستفحال الازمات وترحيلها على مدى السنوات الماضية ،يضاف الى ذلك غياب الامن والمواجهة مع تنظيم داعش ،وهو ما جعل العراق اليوم على شفا حافة الانهيار الاقتصادي بسبب هذه التراكمات وما خفي كان اعظم وأكبر ، وقد نشهد في الفترة المقبلة مزيدا من هذه القضايا والفضائح التي ستكشف حجم الفساد في العراق .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية