المحطة الكويتية: لماذا تتجه دول الخليج إلى دبلوماسية الوساطة الإقليمية؟

المحطة الكويتية: لماذا تتجه دول الخليج إلى دبلوماسية الوساطة الإقليمية؟

4497

أضحت دبلوماسية الوساطة أحد أبرز الظواهر اللافتة في سياسات عدد من دول مجلس التعاون الخليجي، والتي سعت إلى توظيفها لتحقيق مكاسب تحافظ على الأمن القومي الخليجي، بجانب إضافة مزيد من الزخم إلى رصيدها الدبلوماسي والسياسي. وقد برز ذلك واضحًا في سياسات كلٍّ من سلطنة عمان وقطر والكويت.

تحتاج دبلوماسية الوساطة رصيدًا من الثقة بالطرف الوسيط، وقدرة على ممارسة النفوذ المعنوي والمادي. وتعتمد الدبلوماسية الخليجية على الاثنين معًا، وتقدم سلطنة عمان نموذجًا دالّا؛ فقد مكنت السياسات الحيادية التي عُرفت بها السلطنة على مدى عقود، من إكسابها رصيدًا معنويًّا استثمرته في رعاية عملية تفاوض بحجم الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. كما مكنت فترة فراغ القيادة في العالم العربي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، قطر من السعي لملء هذا الفراغ بممارسة دبلوماسية الوساطة.

الآن تراجعت قطر، واختلف نهجها السياسي قليلا، ولا تبدو سلطنة عمان في الحالة التي تسمح لها بممارسة نشاطها على الوجه الأكمل، ومن ثم تُعتبر الكويت -الآن- الأكثر مناسبة للقيام بهذه المهمة لمصلحة دول الخليج العربي.

أنماط الوساطات الخليجية:

على مدى السنوات الماضية، قامت كلٌّ من قطر وسلطنة عمان والكويت بأدوار هامة في دبلوماسية الوساطة على نحو أنعش الدور الدبلوماسي لدول المنطقة، وجعل الدبلوماسية الملمح الأكثر بروزًا لخطها السياسي.

وتمثلت أبرز أدوار الوساطة القطرية في النجاح في إنهاء أزمة الممرضات البلغاريات في ليبيا عام 2007، واتفاق الدوحة بشأن الأزمة اللبنانية في 2008، والتوصل إلى اتفاقية سلام لإنهاء النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا في 2011، والتوصل إلى وثيقة السلام في دارفور في 14 يوليو 2011، وتوقيع اتفاق المصالحة بين حركتي حماس وفتح في 2012، والإفراج عن الجنود اللبنانيين الذين أسرتهم جبهة النصرة في 2014، وتوقيع اتفاق السلام بين التبو والطوارق في ليبيا في 2015. وساعد قطر على ذلك بروزها في سنوات العقد الأول من القرن العشرين كوجه جديد في سياسات المنطقة، وساعدتها قدراتها المالية التي مكنتها من تقديم المليارات لبعض أطراف الصراع لأجل تحقيق النجاح الدبلوماسي.

وعلى خلاف التوظيف القطري للدبلوماسية في لعب دور وظيفي شبه قيادي، فإن لسلطنة عمان إرثًا ورصيدًا قيميًّا في دبلوماسية الوساطة في ضوء تاريخها الحيادي وسياستها التي لا تتدخل في شئون الغير، وحرصها الشديد على الاستقلال الوطني ووحدة التراب العماني. وفي الحقيقة فإن عمان من أكثر دول العالم التي يمكن القول إنها تحقق دبلوماسية تصفير الأزمات. ولا تسعى السلطنة لتحقيق مكاسب من مساعيها للوساطة، بل إنها تنحو إلى الانزواء بمجرد انتهاء المهمة، فيما يُضفي عليها مسحةً من الزهد السياسي الذي يزيدها إشعاعًا وبريقًا يجذب لها الآخرين. من هنا كانت عروض الوساطة العمانية بين البحرين وقطر، والسعودية وقطر، ثم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، ومؤخرًا استضافة وفود الحوثي للوساطة في صراع اليمن.

أما بالنسبة للكويت فقد سطع نجمها في استضافة مؤتمرات المانحين لدعم الوضع الإنساني في سوريا في يناير 2013 ومارس 2014 ومارس 2015. وكغيرها من دول الخليج تبذل الكويت جهودًا ضخمة في العمل الخيري والإنساني على المستوى الدولي. ولذلك لم يكن غريبًا أن يتسلم أميرها الشيخ صباح الأحمد الجابر جائزة قائد العمل الإنساني من الأمم المتحدة، وأن تسمى المنظمة الدولية دولة الكويت “مركزًا للعمل الإنساني”. فضلا عن ذلك قامت الكويت بجهود للوساطة في 2011 بين الإمارات وسلطنة عمان، وفي 2014 بين السعودية والإمارات والبحرين من جانب وقطر من الجانب الآخر خلال أزمة سحب السفراء. وفي مارس 2016 طلبت منها إيران التوسط بينها والسعودية. وخلال أيام سوف تستضيف الكويت جولات الحوار اليمني.

وفضلا عن مساعي الدول الثلاث، لا تزال الجهود الدبلوماسية غير العادية التي بذلتها المملكة العربية السعودية للوساطة بين مصر ودول العالم الكبرى والتي قادها وزير الخارجية الراحل الأمير سعود الفيصل بعد ثورة 30 يونيو 2013، ومساعي الوساطة السعودية المستمرة بين مصر وقطر منذ ما قبل رحيل الملك عبدالله، والمساعي الراهنة للوساطة بين مصر وتركيا، وكلها تشير إلى تكريس نهج دبلوماسية الوساطة في قلب السياسات الخليجية.

تفسيرات عديدة:

هناك تفسيرات عديدة لاتجاه دول مجلس التعاون الخليجي إلى دبلوماسية الوساطة، ومن أهمها ما يلي:

1. قيم وأصول الحكم القبلية: حيث تُمارَس أغلب أدوار الوساطات الخليجية بنفس القيم والأصول والأعراف المستمدة من الطابع القبلي المنغرس في منطقة الخليج، ومن هذه الأصول تغليب الحكمة والتدخل للصلح بين المتخاصمين، وعقد مجالس العائلات والقبائل الساعية لتسوية الخلافات، وفقًا للأعراف القبلية. وفي الحقيقة فإن أغلب الخلافات الخليجية تتسم بالمفاجأة، وتتخذ طابعًا شخصانيًّا، وهو ما يؤهل لممارسة أدوار مجالس العائلة والحكماء.

2. تعزيز المكانة في الداخل: تقوم بعض دول الخليج بأدوار الوساطة لتمتين أواصر وشرعية الحكم ولتعزيز المكانة الإقليمية. وفي الداخل تستهدف الدول الخليجية من دبلوماسية الوساطة تكريس شرعية الدولة والأسرة الحاكمة. كما أن صغر حجم بعض دول الخليج ومحدودية قدراتها العسكرية يجعلها تتجه إلى تعظيم مكانتها في الجوار وفي العالم عبر مبادرات تنطلق بها الدولة لتمارس دورًا ينعكس على مجتمعها وشعبها في الداخل. ناهيك عن مضاعفة قوتها الناعمة، وتأثيرها الإقليمي والعالمي، مما يمكنها من امتلاك أوراق احتياطية لأمنها القومي.

3. الوجود في محيط مضطرب: وجود دول الخليج في أجواء عدم استقرار إقليمية، فرض عليها الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجميع عبر دبلوماسية مفتوحة. ويدفعها إلى ذلك اعتبارات أخرى خلال السنوات الأخيرة، أهمها تراجع عصر النفط، وتراجع الضمانة الأمنية الأمريكية، والانخراط أو الاشتباك الواسع في الصراعات الداخلية بدول الثورات، وهو مسار على الأرجح أن يستمر ويفرض عليها مخاطر جديدة، تدفعها إلى بناء تحالفات وكسب أوراق إضافية تكون عونًا لها وقت الحاجة.

4. التنافس البيني وتبادل الأدوار: يُعتبر تبادل الأدوار أحد التفسيرات المهمة لقيام بعض دول الخليج بأدوار وساطة في الصراعات، فعلى الرغم من مسعى الوساطة المستقل لسلطنة عمان، إلا أنه في بعض القضايا ليس بعيدًا عن توزيع الأدوار في الوسط الخليجي، وما تقوم به الكويت حاليًّا في اجتذاب أطراف الحوار في اليمن يأتي في السياق ذاته، وكذلك التوسط بين إيران والسعودية. وفي الأغلب يتفق الشركاء الخليجيون على توزيع المهام والأدوار داخل مجلس التعاون الخليجي. صحيح أن التنافس كان محركًا لبعض الدول أحيانًا خصوصًا في علاقة قطر مع السعودية خلال فترة حكم الشيخ حمد آل ثاني، إلا أن الدبلوماسية القطرية في عهد الأمير تميم يبدو من سلوكها أنها قررت العودة إلى السرب الخليجي، وسلمت بالقيادة السعودية للإقليم.

وبشكل عام، يُلاحظ توزيع الأدوار في عمليات التقدم والتراجع البادية في فترات انتعاش دور الوساطة لكل دولة خليجية؛ فبينما تراجعت قطر في السنتين الأخيرتين، باستثناء القضايا التي لا يقوم بها غيرها، فقد تقدمت سلطنة عمان. وبينما تراجعت السلطنة في موضوعي إيران واليمن مؤخرًا، تقدمت الكويت. وهو ما يُشير إلى قدر من توزيع الأدوار يتسق مع حالة الجهوزية الدبلوماسية الخاصة بكل دولة. كما أنه يُلاحظ اختلاف تخصصات ومجالات الوساطة بين الدول الخليجية، فبينما تمددت وساطة قطر على الصعيد الإقليمي العربي قبل وبعد الثورات، تتركز وساطة سلطنة عمان في المحيط الخليجي، وخصوصًا في الموضوعات المتصلة بإيران واليمن، في حين تشتهر الكويت بالوساطات في الخلافات بين دول مجلس التعاون وبعضها بعضًا، وإن كانت تتجه الآن للعب دور سلطنة عمان، وقد يتلو ذلك جهود تالية من السلطنة للبناء على ما تحققه الكويت، إذا انتهت وساطتها إلى لا شيء.

كما يلاحظ أن الدول الخليجية الثلاث الأخرى (السعودية والإمارات والبحرين) التي لا تتجه إلى دبلوماسية الوساطة، كنهج وظيفي إقليمي، لديها خلافات شديدة مع إيران، وهو ما يفسره أن أغلب عمليات الوساطة الخليجية قامت بها أطراف لم تقطع حبل العلاقة مع إيران، ولم يكن بالإمكان قيام السعودية أو الإمارات أو البحرين بأدوار وساطة، لأن خطوطها السياسية مقطوعة مع الجمهورية الإيرانية، أو تشغلها الهواجس والتوجسات، حيث توضح النظرة الفاحصة إلى الدول التي تخصصت في أدوار الوساطة (عمان وقطر والكويت) أنها ليست لها منازعات مع إيران، أو سعت بقرارها الخاص إلى التخفيض العمدي لتوتراتها مع الجمهورية الإيرانية رغم قضايا الخلاف معها، أما الدول الثلاث الأخرى، فإيران تحتل جزرًا من إحداها (الإمارات)، ولها مطالبات في الثانية (البحرين)، وفي صراع وأزمات مستمرة على النفوذ والدور مع الثالثة (السعودية).

فرص الدبلوماسية الكويتية :

على الرغم من الرصيد الإيجابي للدبلوماسيات الخليجية في الوساطات البينية والإقليمية، إلا أنه ليس أنسب الآن من الكويت للوساطة بين إيران والسعودية وباقي دول الخليج؛ حيث إن الحالة الصحية للسلطان قابوس لا تجعل جهاز الدبلوماسية العماني بكامل جاهزيته، كما أن قطر في ظل حكم الأمير تميم ليست هي ذاتها في ظل حكم الأمير الأب الشيخ حمد بن خليفة، ولا تطمح للعب ذات الدور، ولن تستطيع لو أرادت، فضلا عن أن عمر الأمير الشاب لا يجعل بلاده المحطة المفضلة للعب هذا الدور في ضوء أعراف ومجالس العائلات وشيوخ القبائل، لذلك يبرز الشيخ صباح الأحمد ودولة الكويت كأنسب زعيم ودولة يمكن التوجه إليها بهذا الطلب، وهو ما يبدو أن إيران قرأته جيدًا فتقدمت بطلبها إلى الكويت.

مع ذلك، من الصعب التنبؤ بمستقبل الوساطة الكويتية، وما إذا كانت ستنجح أم لا، وسوف يختلف الأمر بحسب طبيعة الوساطة والهدف منها، فهل يتمثل الهدف الإيراني فقط في عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل الحكم باعدام الشيخ نمر النمر والعدوان على السفارة والقنصلية السعوديتين وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل أوائل يناير الماضي، هنا المهمة محدودة ومحددة بهدف معين يمكن توقع الوصول إليه على الرغم من الموقف السعودي الرافض بشدة حتى الآن. أما إذا كان الهدف هو إعادة فتح ملف العلاقات كله، والوصول إلى صفقة خليجية كبرى مع إيران على غرار الصفقة النووية مع الغرب، وفض الاشتباك الخليجي مع الجمهورية الإيرانية، والوصول إلى معادلة أخرى للعلاقات، فهذه معادلة مختلفة تمامًا، يصعب أن تتحقق في الأمد القريب أو المنظور.

لكن على الأرجح سوف يتأثر مستقبل الوساطة بأربعة أشياء أساسية، وهي القدرة على تجاوز مرارات وحساسيات التاريخ، والقدرة على تلافي وتخفيف العداء الاجتماعي والنخبوي، ومستقبل إدارة العلاقات والانفتاح بين إيران والغرب، ومستقبل حسم الصراع الداخلي في إيران بين الثورة والدولة، وهنا يمكن القول إن مستقبل نجاح الوساطة الكويتية سيكون جزءًا من حسم معركة الداخل في إيران أولا وقبل كل شيء.

د. معتز سلامة

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية