هذه ليست أفضل المراحل بالنسبة إلى إيران، ليس فقط لأن «عاصفة الحزم» غيّرت مسار أحلامها الإقليمية، بل لأن بعض نتائج سياساتها بدأ يشير إلى حسابات خاطئة، وبعضاً آخر يشي بمبالغة في تقدير الذات، فضلاً عن بعض ثالث يُعزى إلى الطبيعة الإيديولوجية لا الواقعية للأهداف المرسومة. بين الحسابات الخاطئة أن أميركا- باراك أوباما مندفعة نحو إيران إعجاباً بحكم الملالي وتريد استمالتها من دون شروط. أما المبالغات فقادت إيران إلى الاعتقاد بأن المجتمعات العربية استكانت أو ماتت إلى غير رجعة أمام هجمة المليشيات ولن تجد سبيلاً داخلياً أو خارجياً لمواجهتها والسعي إلى الخلاص منها. وأما الأماني المؤدلجة فصوّرت لإيران أنه يمكنها، مثلاً، ابتلاع اليمن أو إخضاع العراق، أو أنها الطرف الثالث في أي محادثات أميركية- روسية بشأن سوريا.
بين المكابرة والمخاتلة، لا تزال ماكينة السلطة في إيران تحاول عبثاً ضبط مفاعيل الاتفاق النووي استيعاباً أو احتواءً، لتتبيّن أنه فعل فعله في إدخال تغيير في عمق السياسة المتّبعة منذ بداية العقد الماضي. كان أحد المحركات الخفيّة للتنافس في الانتخابات الأخيرة، وشعر المتشدّدون بأنهم أمام تحدٍّ لم يواجهوه سابقاً. أدركوا أن معادلة تفكيك البرنامج النووي مقابل رفع العقوبات لا تعمل بالطريقة التي تصوّروها، وأن الحفاظ على ذلك البرنامج من دون أي تغيير في السياسات الداخلية والخارجية ليس استنتاجاً واقعياً. فالاتفاق وفّر ميزات لطهران، لكنه شكّل نوعاً من منظومة اختراق لـ«السيستم» كلما قاومه النظام كلما أبطأ تنفيذ الاستحقاقات التي يترقّبها منه.
قبل أيام قال أوباما شخصياً إن عودة إيران إلى الاقتصاد العالمي «ستستغرق وقتاً»، وهذا ما ردّده العديد من الخبراء في كثير من المناسبات، ولكن هذا تحديداً ما لا يريد المرشد الإيراني أن يسمعه. فمنذ إعلان رفع العقوبات رسمياً، منتصف يناير الماضي، استشعرت طهران سيراً بطيئاً في الإجراءات ما قيّد الجانب الأكبر من استعادة نشاطها المصرفي، كما أن الدول التي تهافتت عليها لا تجد سهولة في مباشرة الصفقات معها بسبب فرملة أميركية. لذلك انعكس هذا الوضع على العلاقة بين المرشد والرئيس، واضطر حسن روحاني إلى إلغاء رحلتين إلى العراق والنمسا «لأسباب أمنية»، كما أُعلن، وهي حقيقية كما فُهم في طهران وفي الخارج.
للمرة الأولى، بعد الاتفاق النووي، تستحثّ الدول الغربية الأربع الموقعة عليه مجلس الأمن لمناقشة في قضية الصواريخ الباليستية التي بدأت إيران تجري تجارب عليها، ولاتخاذ الموقف المناسب حيالها. منذ أعوام المفاوضات المتعثّرة، وفي أيام المفاوضات المتيسّرة، دأب الخبراء على القول إن ملف الصواريخ هو بخطورة الملف النووي، والبعض قال بل أكثر خطورة نظراً إلى تعذّر التوافق الدولي عليه. فتفاهمات مجموعة الـ5+1 اقتصرت على الشأن النووي، ولم تتمكّن من إقرار العقوبات إلا مع استثناءات للصين وروسيا. وإذ تُطرَح قضية الصواريخ الآن فإن الجدل أبرز تناقضاً بين واشنطن التي تقول إنها تنتهك القرار 2231 الذي صادق على الاتفاق النووي وفرض قيوداً على التسلح الصاروخي، وبين موسكو التي تقول إن «التجارب» لا تُعتبر انتهاكاً، أما طهران فتحاجج بأن الصواريخ «دفاعية» ولا تخضع للقيود. غير أن إيران تخفي المعلومات كما فعلت بالنسبة إلى البرنامج النووي.
كان يمكن لقضية الصواريخ أن تبقى في نطاق عسكري ضيق، لو لم تترافق بسيل من الاتهامات التي أطلقها خامنئي لأميركا بأنها «عدائية» وأن عقوباتها «تعوّق الصفقات»، إلى أن نشر موقعه الإلكتروني هذه العبارة «من يقولون إن المستقبل هو المفاوضات وليس الصواريخ إما جهلاء أو خونة»، ردّاً على رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام علي أكبر هاشمي رفسنجاني الذي غرّد على «تويتر» قائلاً إن «عالم الغد هو عالم الحوار وليس الصواريخ». وجاء أيضاً في ردّ المرشد أن إطلاق الصواريخ «لازمٌ لمواكبة الدبلوماسية». وهكذا سلّط الرجلان الأضواء على قضية الصواريخ وعلى خلاف يعكس أيضاً انقساماً داخلياً حول خيارات المرحلة المقبلة، وخصوصاً أن خامنئي استخدم لهجة غير معتادة في دعوة روحاني إلى اعتماد «الاقتصاد المقاوم» الذي انتُهج في فترة العقوبات. ولعل في قول محسن رضائي أن واشنطن تشترط «تفكيك الحرس الثوري» لإتاحة انضمام إيران إلى منظمة التجارة العالمية ما يضيف سبباً آخر لغضب المرشد، وخصوصاً أن «الحرس» يهيمن على جانب كبير من الاقتصاد الإيراني.
نقلاً عن “الاتحاد” الإماراتية