لم يعد يكفى إعلان موقف رافض لدعوة «الفيدرالية» فى سوريا كى تختفى هذه الدعوة، أو تتراجع ولو تكتيكياً، على الأقل لسبب أساسى هو أن هذه الدعوة ليست استجابة فقط لمؤامرة خارجية تحرض عليها ضمن مخطط إعادة تقسيم الدول العربية، على الرغم من أن هذه المؤامرة موجودة، بل مؤكدة، كما أن هذه الدعوة ليست مجرد موقف رافض لاستمرار الانخراط فى الدولة المركزية السورية من جانب جماعة عرقية أو دينية أو طائفية بعينها، برغم أن هذا الموقف موجود بالفعل فى هذه الدعوة إلى «الفيدرالية» أى إنهاء الحكم المركزى واستبداله بنظام اتحادى يعطى للمقاطعات أو المحافظات حقوقاً دستورية استقلالية وحكومات خاصة مع الاحتفاظ بحكومة اتحادية على نحو الفيدرالية التى أعلن عنها عقب اجتماع نظمه حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي، بمشاركة «حركة المجتمع الديمقراطي» و»مجلس سوريا الديمقراطية» وحضور ممثلين لعشائر وشخصيات عربية وآشورية وسريانية.أعلن عن هذه الفيدرالية بعد يومين من الاجتماعات المتواصلة (16- 17 مارس 2016) بمدينة الرميلان فى محافظة الحسكة، وجاء فى هذا الإعلان العزم على تأسيس نظام فيدرالى ديمقراطى لـ «روج آفا شمال سوريا» أى «غرب كردستان وشمال سوريا»، وانتخبت رئاسة مشتركة لمجلس تأسيسي، ولجنة تنظيمية تتألف من 31 عضواً، وكلفت هذه اللجنة التنظيمية بإعداد «عقد اجتماعي» ورؤية قانونية- سياسية شاملة لهذا النظام فى مدة لا تتجاوز ستة أشهر. وكان سيهانوك دييو مستشار الرئاسة المشتركة فى «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردى السورى قد أوضح أن المناطق المعنية بهذه الفيدرالية تشمل المقاطعات الكردية الثلاث وهي: عين العرب (كوباني) فى ريف حلب الشمالى وعفرين فى ريف حلب الغربي، والجزيرة (الحسكة)، بالإضافة إلى المناطق التى سيطرت عليها مؤخراً قوات «سوريا الديمقراطية» فى محافظتى الحسكة وحلب، ما يعنى أن هذه الفيدرالية تشكل كياناً بعمق يتراوح بين 50 و 100 كيلومتر، وبطول أكثر من 6000 كيلومتر، تبدأ من عفرين غرباً حتى المالكية فى أقصى الشرق.
ظهور هذا المشروع الفيدرالي، الذى يعد فى جوهره تأسيساً لكيان كردى برغم التظاهر بعكس ذلك يقع على الحدود الشمالية السورية جنوبى تركيا وبمحاذاة الأناضول التركى ويمد لتأسيس دولة كردستان التاريخية الممتدة بين إيران وتركيا وسوريا والعراق، يمكن اعتباره نتاجاً طبيعياً لأربعة عوامل مجتمعة.
فهو أولاً تعبير عن التمرد المجتمعى ضد الدولة التسلطية- الأمنية التى فرضت على سوريا على مدى عقود ممتدة اختصرت فيها السلطة والثروة فى حزب البعث العربى الاشتراكى إلى الأقلية العلوية ثم تقلصت فى شخص الرئيس وحاشيته وأجهزته القمعية، مع تعمد إقصائى شامل للمجتمع السورى بكل مكوناته العرقية والدينية والطائفية وكل قواه السياسية ممثلة فى الأحزاب المهمشة، ومؤسسات الحكم الهشة. وعندما تفجرت الثورة أو الانتفاضة فى سوريا فى مارس 2011 كان فى مقدمة أهدافها استعادة سوريا إلى الشعب السورى بكل مكوناته السياسية والعرقية والطائفية، أى إعادة التوحد بين الدولة والمجتمع عبر شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإعلاء مبدأ المواطنة كأساس للحكم، لكن الثورة أجهضت وتراجعت هذه الأهداف أمام التدخل الأجنبى العربى والإقليمى والدولى بهدف إسقاط الدولة السورية تحت مسمى زائف هو إسقاط النظام عبر دعم وتسليح وتدريب المنظمات الإرهابية. إعلان هذه الفيدرالية يأتى ظاهرياً ضمن مسعى استعادة أهداف الثورة، واستعادة الدولة للمجتمع، عبر «عقد اجتماعي» يعلى من شأن حرية الفرد بموازاة حرية القوى الاجتماعية فى مجتمع مفعم بالتعددية العرقية والدينية والطائفية. وهذه هى النقطة المحورية التى تفسر مشاركة مجموعات عربية وآشورية وسريانية جنباً إلى جنب مع الأكراد فى تأسيس هذه الفيدرالية، كما يبرر تجاوز حدود هذه الفيدرالية للمحافظات الكردية أو لـ «مناطق الإدارة الذاتية» الكردية. العامل الثانى هو نجاح الأكراد ممثلين فى أحزابهم خاصة حزب «الاتحاد الديمقراطي» فى تحقيق أقصى استفادة من التفويض الذى حصلوا عليه من النظام السورى بإدارة شئونهم والتصدى للمنظمات الإرهابية (جبهة النصرة وداعش) فى محافظاتهم وحماية الحدود السورية مع تركيا ومنع تسلل الإرهابيين. فبعد الانتصارات العسكرية التى نجح الأكراد فى تحقيقها فى معارك «عين العرب» (كوباني) وأريافها خاصة، والتمدد أبعد من الخريطة الكردية التقليدية فى مناطق عربية تحت غطاء جوى أمريكي، وبعد النجاحات السياسية الاجتماعية التى نجحوا فى تحقيقها فى مناطق «الإدارة الذاتية» مع جمهور عربى وسريانى واسع، وبعد إيلاء «مجلس سوريا الديمقراطية» بزعامة عربية كردية مشتركة، دوراً سياسياً يتجاوز الشمال إلى سوريا كلها، والاستناد إليه فى الترويج لنموذج «الإدارة الذاتية» كحل ديمقراطى لسوريا بإجماعها، جاء التوجه نحو الانتقال من «نموذج الإدارة الذاتية» إلى نموذج «الفيدرالية». كان رهان النظام السورى وشخص الرئيس بشار الأسد يقوم على تسليح الأكراد لتحصين خط الحدود مع تركيا من اختراقات المجموعات الإرهابية، إضافة إلى استخدام هؤلاء الأكراد المسلحين كتهديد لتركيا بشبح «معقل كردي»، يخيف تركيا ويردعها عن التمادى فى دعم المعارضة، وبما يسمح أيضاً بتوفير فرق عسكرية سورية للقيام بمهام أخرى قتالية فى مناطق أكثر حرجاً وحيوية من تكديسها على الحدود مع تركيا، لكن الأكراد أفشلوا كل رهانات النظام السورى وحولوا انتصاراتهم العسكرية ونجاحاتهم السياسية لمصلحتهم وفى مواجهة النظام نفسه الذى كان بالأمس القريب أهم شركائه.
أما العامل الثالث فهو رفض تركيا الحاد ورفض معارضة «الرياض» أى المعارضة السورية المدعومة من السعودية لمشاركة حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردى- السورى و«مجلس سوريا الديمقراطية» مفاوضات جنيف الخاصة بإيجاد حلول للأزمة السورية، فهذا الرفض فاقم من مشاعر الإقصاء عند الأكراد ودفعهم إلى إنهاء العلاقة مع كل التسوية السورية. فعلى الرغم من الخلافات العميقة بين وفدى الحكومة ومعارضة الرياض فى جنيف، فإن الأمر الوحيد الذى اجتمعوا عليه هو «رفض الفيدرالية» هناك عامل رابع حفز هذا التوجه نحو الفيدرالية عند الأكراد وهو الدعم الأمريكى. فمن المستبعد لجوء «الاتحاد الديمقراطي» إلى اتخاذ هذه الخطوة دون إطلاع حلفائه الغربيين وبالذات الحليف الأمريكى الذى يعول عليهم كفصيل مفضل للحرب ضد «داعش» على الرغم من رفض الخارجية الأمريكية لخيار «الفيدرالية» حيث إن دعم «البنتاجون» للمعارضة الكردية يتجاوز مفعول رفض وزارة الخارجية ويتجاوز أيضاً الرفض الروسى الملتبس لتلك «الفيدرالية».
دون مواجهة هذه العوامل الأربعة ستتحول الدعوة الفيدرالية إلى أزمة فى ذاتها، وهذا هو التحدى الأهم أمام المتفاوضين فى «جنيف – 3» .
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للبحوث والدراسات