تتعارض الأسس التي قام عليها نمو الصين غير المسبوق مع كل الدروس التي يلقيها خبراء المنظمات الدولية، مثل البنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، وأكاديميون محترمون واستشاريون مرموقون وغيرهم. لم تتبع الصين نصائح هذه المؤسسات الداعية إلى حرية السوق المطلقة والخصخصة والدولة النحيلة .. إلخ، بل لم تتبع أي نهج إيديولوجي ثابت، بل اتبعت نهجاً براغماتياً، تقوده أهداف محددة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية دون السياسية.
قفزات الصين
ما كان للصين أن تحقق ما حققت، خلال قفزة ماوتسي تونغ الكبرى بين 1949 و1976، وأن تنهض من الجوع إلى الفقر، من دون الاعتماد على دولةٍ مركزيةٍ، تسيطر على الفائض وتخطيط صارم. لكن ذاك النموذج سرعان ما استنفد قدراته التنموية، فابتدأت الصين، عام 1987، إصلاحاً اقتصادياً من دون إصلاح سياسي، وأخذت بمبادئ اقتصاد السوق تدريجياً، وأدخلت التخطيط التأشيري إلى جانب المركزي الملزم، ومنحت شركات القطاع الحكومي مرونةً أكبر في توجيه أسعارها وأجورها واستثماراتها، وفق مؤشرات اقتصاد السوق، وأدخلت عامل المنافسة في جسم الاقتصاد، وفي المصلحة الفردية للمشتغلين في القطاع الحكومي. كل هذا مع الاحتفاظ بيد الدولة قويةً في توجيه الاقتصاد والاستثمارات والاستهلاك، وفعلت هذا كله بالتدريج، مع الاحتفاظ بالنظام السياسي وسيطرة الحزب الشيوعي من دون تغيير.
قفزت الصين، خلال فترة الإصلاح، من الفقر إلى الغنى، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، بفارق كبير بينها وبين اليابان التي تأتي بعدها، وأن يقفز ناتجها المحلي الإجمالي من ما يعادل 6% من ناتج الولايات المتحدة عام 1981 إلى أكثر من 60% في عام 2015، وهي ماضية في تقليص الفارق.
“فهمت الصين لعبة السوق العالمية والاقتصاد العالمي، وأجادتها وأخضعت كل شيء لمصلحة النمو الاقتصادي، فالاقتصاد سلاح الصين الفعال”
ليس أدل على مكانة الصين العالمية، اليوم، من القلق الذي يحدثه تباطؤ نموها الاقتصادي، بما له من تأثير كبير على النمو العالمي الذي يساهم به نمو الصين بنسبة الربع. إن تأثير تباطؤ نمو الصين يصيب بلداناً كثيرة، تستورد منها الصين مواد ومعدات أو تصدر لها منتجات واستثمارات. وقد راهن الغرب على أن نمو الصين الانفجاري سيكون فقاعةً، يمكن التحكّم بها بأشكالٍ مختلفة. ولكن، يبدو أن الصين تربح الرهان اليوم.
نهج تنموي
اتبعت الصين نهجاً تدريجياً في الإصلاح والانفتاح، والاشتباك مع الأسواق العالمية، والاقتصاد العالمي، وكلما تقدمت، وأصبحت أكثر قوةً، انفتحت أكثر وبشروطها. وبالتالي، تجنبت نهج الإصلاح بالصدمة الذي توصي به المؤسسات الغربية، والذي أوقع دول المعسكر الاشتراكي، وأدى إلى انهيار اقتصادياتها، ولم تحصد أية نتائج إيجابية تذكر حتى الآن.
شجعت الصين الادّخار، وابتعدت عن التنمية التي يقودها الاستهلاك على الطريقة الغربية. وساعدها هذا على أن تحقق أعلى معدلات استثمارٍ، يمكن تصورها، تجاوزت الـ50 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، ما شكل لديها فائضاً كبيراً موّل الاستثمارات الداخلية والخارجية. لتعزيز القدرة على الادخار، كبحت الصين لعقود الميول الاستهلاكية الغربية. خلال كل هذه المراحل، كانت تنمية العلم والبحث والتطوير التي رعتها الدولة أساس تنمية قدرة الصين ورافعة نموها.
أدّى هذا النهج إلى بروز طبقات وسطى، ونخب غنية، ونمو رأسمالية صينية بقدرات كبيرة، لكن هذه الطبقات الجديدة انخرطت في المشروع التنموي القومي الصيني الذي تقوده الدولة ويهدف إلى بناء “صين قوية” تتطلع إلى قيادة العالم.
عكس تجربة بلدان المعسكر الاشتراكي السابق خلال فترة حكمه، فتحت الصين الباب تدريجياً، وعلى نحو مبكر ومتصاعد، أمام استثمارات القطاع الخاص الصيني، كما أنها فتحته أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وفي الوقت نفسه، لم تفتح أمامها الباب على مصراعيه، بل نظمت الاستثمارات وفق مصالحها، وعرفت كيف تستفيد منها في إيجاد فرص عمل، وتراكم ونقل معرفة صناعية لتعزيز التصنيع الموجه نحو التصدير (تنمية يقودها التصنيع الموجه نحو التصدير)، مستفيدةً من فرصة تخلّي الدول المتقدمة عن الصناعات، كثيفة العمالة والمستهلكة للطاقة والملوثة للبيئة، منذ سبعينات القرن العشرين، وتصديرها إلى العالم الثالث. ووجدت الدول المتقدمة في الصين العملاقة ساحة واسعة قادرة على تزويدها بكل ما تحتاجه من سلع كثيفة العمالة، فكانت شراكة مربحة للطرفين. قدمت الصين للاستثمارات الأجنبية المباشرة شروطاً مناسبةً من يدٍ عاملةٍ رخيصةٍ منضبطةٍ بدون إضرابات، وبدون توقف عن العمل، تأتي من فائض كبير في الأرياف، وقد أمنت الدولة الصينية التعليم والتدريب لتلبية احتياجات الاستثمارات الجديدة في الصناعات الخفيفة أولاً، ثم الصناعات الأكثر تطوراً.
على الرغم من أن هذا التبادل الذي أقامته الصين مع العالم يعد “تبادلاً غير متكافئ”، لكنه كان الطريق الوحيد إلى تنمية هادفة، عبر اجتذاب استثمارات كبيرة تخلق فرص عمل كثيرة، ونقل للمعرفة “KNOW HOW”، فقد ساعدتها الاستثمارات الأجنبية في أن ترتفع بجزء كبير من منتجاتها في سلم القيم المضافة، لترفع نسبة صناعة الآلات والتجهيزات والمعدات الثقيلة في منتجاتها وصادراتها، فالصين اليوم تكاد تصنع كل شيء، وإن لم تكن متفوقة بعد في بعض الصناعات، أو تنتجها بجودة وكفاءة أدنى، غير أن منتجاتها ذات التقنية العالية تحصد نسباً متزايدة في السوق العالمية.
لم تصب الصين بمرض استبداد العائلات الذي أصيبت به السلطات الانقلابية العسكرية في البلدان العربية مثلاً، حيث تحولت السلطة فيها إلى احتكار سلطة الفرد أو الأسر الحاكمة، كما لم تسر الصين على نهج المعسكر الاشتراكي السابق، حيث تبقى القيادات حتى الممات، فقد تم ترتيب النظام الصيني، بعد وفاة ماوتسي تونغ، بحيث ترك الباب مفتوحاً، لتغيير القيادات بين فترة وأخرى. وبالتالي، تغيير العقول التي تدير، والأعين التي ترى. وبالتالي، رؤية نقاط الضعف والقدرة على النقد وتعديل السياسات وتغيير النهج برمته، حيث يتطلب الحال، ما يبقي المنافسة قائمة بين متنافسين أقوياء، يسعى كل منهم إلى أن يقدم أفكاراً وحلولاً أفضل لإثبات نفسه، ما منح القيادة الصينية ديناميكية كبيرة، وقد انسحب هذا المبدأ على مستويات القيادة الأدنى.
تتلخص التجربة الصينية في أنها اعتمدت نهج الإصلاح الاقتصادي، من دون السياسي، ومنحت مرونة أكبر للشركات الاقتصادية، وأدخلت المنافسة والمصلحة المادية للفاعلين الاقتصاديين، وأبقت دور الدولة مركزياً وقيادياً، فنجحت في إدارة التحول، من دون مخاطر مصيرية.
نجاح الصين برمته هو قصة نجاح لدور الدولة الفعال، وإدارتها الاستراتيجية التي صممت هذا النموذج للنمو، وإدارته بكفاءة، وليس لدور “الدولة النحيلة”، وهذا لا يعني أن النجاح حليف دائم لإدارة الدولة، فقد فشلت الدولة في بلدان عديدة، أكثر بكثير مما نجحت.
“تتلخص التجربة الصينية في أنها اعتمدت نهج الإصلاح الاقتصادي، من دون السياسي، ومنحت مرونة أكبر للشركات الاقتصادية، وأدخلت المنافسة والمصلحة المادية للفاعلين الاقتصاديين”
للتجربة عيوبها
تزايدت الفروق بين الطبقات والفئات في مجتمع يجهر بشيوعيته، وتضخمت الفروق بين مناطق النمو الحديثة على السواحل، وبين الأرياف الداخلية الفقيرة للدخل والخدمات، وارتفعت معدلات الفساد ومعدلات تلويث البيئة. وبالمختصر، تحولت الصين إلى دولةٍ بنظامين، سياسي شيوعي، واقتصادي رأسمالي، وبدأت الميول الاستهلاكية تنتصر، مع ارتفاع مستويات الدخول، ونمو طبقات وسطى ورأسمالية كبيرة، وأصبحت معدلات الاستهلاك تنمو بأسرع من معدلات نمو الناتج المحلي، ومعدلات الاستثمار، وتتباطأ معدلات نمو الناتج المحلي، وهبط نمو الناتج من مستويات تزيد على 10 في المئة إلى مستويات دون الـ 7 في المئة، وأصبحت الصين تعاني من طاقاتٍ إنتاجيةٍ صناعيةٍ فائضة.
أمام مرحلة جديدة
تقف الصين، اليوم، على أعتاب مرحلة جديدة، بعد أن برزت مظاهر جديدة، وفرضت ضرورات التغيير. وتتجه الصين، الآن، إلى تعديل نهجها الاقتصادي باتجاه الانفتاح أكثر على اقتصاد السوق، والانخراط في الاقتصاد العالمي، لتصبح لاعباً رئيسياً، وفق قواعد اقتصاد السوق الرأسمالي. وينعكس هذا في خطتها الخمسية الثالثة عشرة، 2016 – 2020.
ستركز الصين، في خطتها الخمسية هذه، على توجهات جديدة هي:
1) الابتكار والبحث والتطوير، 2) التنمية الخضراء والحفاظ على البيئة، 3) التنمية المنفتحة وإدماج الصين أكثر بالاقتصاد العالمي، 4) التنمية العادلة التي تضمن وصول منافع التنمية إلى جميع السكان، لتقليص التفاوت. ستجد هذه الأسس انعكاسها في تقليص دور الدولة التدخلي المباشر في الاقتصاد والاستثمار والإنتاج وتوسيع دورها في الاستهلاك، ومنح السوق مساحة أكبر، وتعهيد دور الابتكار إلى الشركات والسوق، على أن توفر الحكومة المناخ المشجع وإنشاء صناديق دعم للبحث والتطوير R&D وزيادة مشاركة الاستثمار الأجنبي فيه. لكن الصين ليست مع الدولة النحيلة.
وتثبت تجربة الصين أن طريق النمو ليس واحداً، وأن النموذج الليبرالي المصمم في مخابر المؤسسات الغربية، والمصممة وفق مصالح مصمميها وتجاربهم الناجحة، ليس الوصفة الناجعة الوحيدة. بل إن معظم دول العالم تأخذ بالوصفة الليبرالية اليوم، بينما غالبها لا يحقق أي نجاح يذكر.
لا شك في أن الصين نجحت، بسبب النهج الذي وصفناه أعلاه، لكنها نجحت، لأنها استفادت من عوامل نجاح المجتمع الأوروبي التي درستها جيداً، وفهمت لعبة السوق العالمية والاقتصاد العالمي، وأجادتها وأخضعت كل شيء لمصلحة النمو الاقتصادي، فالاقتصاد سلاح الصين الفعال. وفي الأحوال كافة، لا يمكن حصر النجاح بأية وصفة، فالأمر أعقد بكثير، وعوامله كثيرة.