القتال في القوقاز: التداعيات على المنطقة الأوسع

القتال في القوقاز: التداعيات على المنطقة الأوسع

images

أفادت التقارير بأنه في الأسبوع الأول من نيسان/أبريل، عمل وسطاء على إخماد النزاع الحاد الذي نشب مؤخراً في إقليم ناغورنو كرباخ. وبغض النظر عمّا إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار سيدوم بما ينطوي عليه من هشاشة وقلة ثبات، إلا أن تداعيات القتال تتجاوز إطار الضرر الذي لحق بالمنازل والأرواح في أرمينيا وأذربيجان. وتتوسط بؤرة الصراع كل من روسيا وإيران وتركيا، وبالتالي تؤثر بشكل مباشر في المطامع الإقليمية لروسيا وفي سياسة الولايات المتحدة ومكانتها في منطقة بحر قزوين الكبرى. وإذا ازدادت الأعمال العدائية اتساعاً، من الممكن أن تشكل تهديداً على تركيا وإيران المجاورتين وكذلك على النشاط الإسرائيلي في المنطقة وفي المنطقة الأقرب إلى إسرائيل.

الخلفية

كانت المرة الأولى التي نشب فيها الصراع على إقليم ناغورنو كرباخ المتنازع عليه في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي. ويشكل الأرمن غالبية سكان هذه المنطقة الواقعة في جمهورية أذربيجان، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي اندلعت الحرب بين الدولتين الجديدتين أرمينيا وأذربيجان في الفترة 1992 – 1994 بدافع السيطرة على ناغورنو كرباخ وأسفرت عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص ونزوح ما يقرب من مليون لاجئ. وكانت أكثرية اللاجئين من الأذربيجانيين (860 ألفاً) – إذ لم تكتفِ أرمينيا بالسيطرة على ناغورنو كرباخ بل استحوذت كذلك على سبع مناطق إضافية من أذربيجان متسببةً بطرد السكان من المنطقة التي كانت تعرف في الماضي بكثافتها السكانية العالية.

وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي لا يزال يعتبر إقليم ناغورنو كرباخ أرضاً تابعة لأذربيجان، إلا أن أرمينيا تتعامل معه ككيانٍ مستقل. مع ذلك، لم تعترف أي دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باستقلال هذا “الكيان” – فيما تنتشر القوات النظامية الأرمنية منذ فترة طويلة على أرضه، وليس هناك نظامٍ حدودي [فعلي] يفصله عن أرمينيا. بالإضافة إلى ذلك، أنّ كليهما يستخدم نفس العملة والنظام البريدي، كما ينحدر رئيسا أرمينيا الحالي والسابق من ناغورنو كرباخ. وفي خطابٍ ألقاه عام 2015 وصف الرئيس الأرميني سيرز سارجسيان الإقليم بأنه “جزءً لا يتجزأ من أرمينيا”. بيد أن السلطات التي نصبت نفسها بنفسها كـ “جمهورية ناغورنو كرباخ” لا تنسجم دائماً مع نظيراتها في [حكومات] يريفان وتحافظ على درجة معينة من الاستقلالية المؤسساتية.

وفي الوقت نفسه، تبيع موسكو السلاح للطرفين. وقد ساهمت مليارات الدولارات التي دفعتها أذربيجان خلال السنوات الأخيرة ثمناً للأسلحة المرسلة إلى العاصمة باكو في تعزيز مكانتها بشكل ملحوظ، مما جعل أرمينيا أكثر اعتماداً على الضمانات الأمنية الضمنية التي تقدمها روسيا. ويملك الكرملين نفوذاً أكبر في أرمينيا من غالبية جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة بسبب وجوده العسكري الكبير فيها وسيطرته على أبرز مرافق الطاقة والبنى التحتية الأخرى [لديها].

الإشتباكات الراهنة

بينما تتبادل حكومتا باكو ويريفان في إلقاء اللوم على بعضها البعض على اندلاع القتال المتجدد في 2 نيسان/أبريل – والذي يعتبر من العمليات الأكثر تطرفاً التي شهدها الصراع منذ انتهاء الحرب الأولى في عام 1994 – تبقى موسكو المستفيدة الكبرى من تصعيد العمليات العسكرية. فقد نشب القتال مباشرةً بعد أن حضر رئيسا أرمينيا وأذربيجان قمة الأمن النووي في واشنطن، حيث التقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بكل زعيم على انفراد لمناقشة إمكانية التوصل إلى حل للصراع الذي يختمر ببطء منذ فترة طويلة، من بين قضايا أخرى. ويشار إلى أن زيارة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف شكلت حدثاً مهماً كونها زيارته الأولى إلى واشنطن منذ توليه سدة الرئاسة في عام 2003. فبالإضافة إلى اجتماعه بالوزير كيري، عقد اجتماعات ثنائية مع كل من نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزيرة التجارة الأمريكية بيني بريتزكر وغيرهم. وقد وعدت الزيارة بتعزيز التعاون بين حكومتَي واشنطن وباكو بعد عامين من العلاقات الشائكة بين البلدين.

إلا أن توقيت تجدد القتال بين الطرفين – في أعقاب الزيارة إلى واشنطن وأثناء تواجد علييف خارج البلاد – يشير بقوة إلى أنه حدث بتحريضٍ روسي. وإذا صحّ ذلك، فالرسالة واضحة، ألا وهي أنه يجدر بواشنطن عدم التدخل في شؤون روسيا الخاصة وأنه حريٌّ بحكومة باكو أن تفكر ملياً قبل توطيد علاقتها مع الولايات المتحدة.

فضلاً عن ذلك، وبالرغم من محاولة موسكو الإدعاء بلعب دور صانع السلام، قامت روسيا بلوم أذربيجان علناً على اندلاع القتال. فقد صرّح ناطق رسمي باسم “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي تترأسها روسيا بأن “الأعمال الحالية التي تقوم بها أذربيجان أدّت إلى تصعيد الموقف والصراع”. وقد ترددت أصداء هذه الرسالة في وسائل الإعلام الروسية المدعومة من الحكومة حيث ألمحت وكالة “تاس” الرسمية للأنباء بأن القتال قد يدفع موسكو إلى الاعتراف بناغورنو كرباخ كدولة مستقلة – وهذا يذكّر بالنتيجة التي آلت إليها الحرب بين جورجيا وروسيا عام 2008 حين اعترفت روسيا بكل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية كدولتين مستقلتين.

نمط روسيا العدواني

إن أوجه التشابه بين الفورة الكبيرة السابقة والاشتباك الحالي ملفتة للغاية. ففي ذلك الصيف، ضغط الرئيس فلاديمير بوتين على عدد من الدول المجاورة للامتناع عن الانضمام إلى “اتفاقية الشراكة الشرقية” التي عقدت برعاية الاتحاد الأوروبي، والانضمام عوضاً عنها إلى “الاتحاد الجمركي الأوراسي” التابع لروسيا. وبعد انصياع أرمينيا له، سعى بوتين إلى التوصل إلى اتفاق مشابه مع أذربيجان، إلا أن الرئيس علييف رفض عرضه. وبعد أيام، وبينما كان علييف ووزير دفاعه خارج البلاد، حدث تصعيدٌ غير مسبوق في أربع مناطق على خط التلامس بين الأرمن والأذربيجانيين، من ضمنها مناطق ليست متاخمة لإقليم ناغورنو كرباخ، واسفر عن مقتل ما يزيد عن أربعين شخص من الجانبين.

وأكثر ما يثير القلق في هذا السجل التاريخي هو أن أي دولة سوفياتية سابقة حاولت خلال العقد المنصرم توطيد علاقاتها مع الغرب خسرت أراضٍ مهمة لصالح روسيا. فجورجيا خسرت أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية حين سعت للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (“الناتو”) في عام 2008. وبعد انضمام أوكرانيا ومولدوفا إلى “اتفاقية الشراكة الشرقية”، استحوذت روسيا على شبه جزيرة القرم وبعض أجزاء شرق أوكرانيا من حكومة كييف وعززت انتشارها في منطقة ترانسنيستريا المولدوفية التي تحتلها اليوم.

التداعيات على تركيا وإيران وإسرائيل

من شأن التصعيد الراهن أن يستدرج أطرافاً فاعلة من خارج القوقاز، من ضمنها الشرق الأوسط. وكما ذُكر سابقاً، ثمة تحالفٌ وثيق بين أرمينيا وروسيا، التي كانت قواتها منتشرة في البلاد وتدير دفاعاته الجوية. كما أن موسكو عمدت مؤخراً إلى زيادة قواتها في بلدة غيومري الأرمنية على الحدود التركية التي يجمعها تحالف عسكري بأذربيجان. وفيما يرجّح أن تتخذ كل من تركيا وروسيا الخطوات اللازمة لتفادي الاشتباكات المباشرة بين قواتهما، إلا أن القرب الجغرافي الوثيق بين هذين الخصمين في فترة يحتدم فيها القتال بين حلفائهما قد يؤدي إلى احتكاك غير مقصود بينهما.

وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، حيث لها حدود مع أرمينيا وأذربيجان وتقع على مقربة من خطوط الاحتكاك. وحتى الآن، لم تصدر عن إيران سوى دعوات محايدة لكلا الجانبين “بضبط النفس”، وقد عرض وزير الخارجية محمد جواد ظريف التوسط في الصراع. وعلى الرغم من خلفيتها الإسلامية الشيعية المشتركة مع أذربيجان، ليس لطهران عموماً أي تضامن خاص مع هذه البلاد، علماً بأنه منذ بدء القتال الأخير، سقطت قذيفة هاون في الأراضي الإيرانية، مما يؤكد مدى سهولة توسّع نطاق النزاع.

وبالإضافة إلى ذلك، يطرح الوضع المتبلور تحديات أمنية جديدة أمام إسرائيل، فهي من أبرز الأطراف التي تزوّد أذربيجان بالسلاح. ونظراً إلى أن هذه الأسلحة تُستخدم على الأرجح في القتال الحالي، يمكن أن تضغط روسيا على إسرائيل للامتناع عن إرسال قطع الغيار والمزيد من الإمدادات. فقد سبق لموسكو أن نجحت في فرض ضغوط مماثلة خلال الحرب التي وقعت مع جورجيا في عام 2008. وصحيحٌ أن القوات الروسية ليست منخرطة بشكل مباشر هذه المرة، إلا أن في جعبة الكرملين حالياً المزيد من الوسائل للضغط على إسرائيل نظراً لتدخلها المستمر في سوريا المجاورة.

احتمال حدوث المزيد من القتال

في الخامس من نيسان/أبريل، تم الإعلان عن اتفاق رسمي لوقف إطلاق النار بعد أن استضافت موسكو رئيسَي أركان القوات المسلحة لأرمينيا وأذربيجان. ويناور حالياً وسطاء من دول مختلفة للعب دورٍ في المفاوضات الإضافية. فقد ناقش رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف هذه القضية مع القيادة الأرمنية في يريفان في السابع من نيسان/أبريل وسافر إلى باكو في اليوم التالي (علماً بأن كلتا الزيارتين كانتا مقررتين قبل اندلاع الجولة الاخيرة من القتال).

ولكن لكلا الجانبين أسباباً تدفعهما لمواصلة القتال. فقد تمكّنت أذربيجان من تغيير الوضع القائم على الأرض لصالحها خلال الأسبوع الأول من نيسان/أبريل، لذلك من المتوقع أن تحاول أرمينيا استعادة مواقعها السابقة فيما ستقف القوات الأذربيجانية بدورها بوجه مثل هذه العمليات. وفي أفضل الحالات، قد لا ينجح الوسطاء في تحقيق أكثر من وقت مستقطع قبل الجولة المقبلة من القتال.

 بريندا شيفر

معهد واشنطن