يصف مراقبون ومحلّلون كثيرون وصول نائبة قبطية وهي أماني عزيز إلى منصب وكيل لجنة الشؤون الدينية والأوقاف، التابعة للبرلمان المصري بالسابقة التاريخية في هذا المجلس الذي يضم 36 نائبا قبطيا، لتصبح نسبة النواب الأقباط، الأعلى في تاريخ البرلمان.
يطرح هذا الخبر الذي تناولته وكالات الأنباء مثل حدث بارز وجدير بالتوقف عنده سؤالا جوهريا حول مدى مشاركة واندماج وحتى فاعلية المكوّن المسيحي العربي في الحياة البرلمانية والسياسية ككل في بلدانهم.
“أوطانهم” هذه الكلمة الضبابية لدى الجماعات السلفية المتطرفة من ذوي النهج الإقصائي بين هلالين لما تثيرها لديهم من التباس وتشكيك في مفهوم “الوطن” الذي لا يقوم عندهم على مبدأ الشراكة والتساوي أمام القانون بمعزل عن الانتماء الديني.
جاء تمثيل المسيحيين في مصر وفق نظام الكوتا الذي يفرض تمثيل الأقليات في البرلمان وقد لا يوفّي بقية حقوقهم المشروعة في الحقائب الوزارية، لكنه اعتراف وإن جاء منقوصا بأهمية دورهم وحضورهم.
يتغافل منظرو الإسلام السياسي والمروّجون للعقيدة السلفية الجهادية عن حقيقة أنّ المسيحيين قدماء ومتجذّرون في أرضهم وثقافتهم قبل مجيء الفتح الإسلامي، وأنّهم ظلّوا على عقيدتهم ومارسوا عباداتهم بمنتهى الحرية وفق ما يكفله الدين الإسلامي ويقرّه في ظل السيطرة السياسية للدولة التي لم تكن آنذاك تمارس عليهم أيّ شكل من أشكال الإرهاب الديني كما تؤكد الكثير من المصادر التاريخية.
مسيحيو فلسطين الأكثر حظوة والتصاقا بالوجدان العربي وذلك لخصوصية القضية الفلسطينية وحالة التعاطف العام
لسائل أن يسأل عن سبب هذا الانحسار في دورهم والتراجع الملحوظ في مشاركاتهم بالشأن العام والسياسي على وجه الخصوص بعد أن كان حضورهم فاعلا في بلدان كمصر وسوريا والعراق حيث يشكلون نسبة هامة من السكان.
أما كان الأجدر أن يزداد دورهم وتكبر فاعلية مشاركاتهم مع انفتاح هذه الدول على الثقافات الغربية بتشريعاتها وقوانينها التي تنبذ التفرقة الدينية والطائفية والعرقية وتحمل شعـــارات المساواة ومبادئ التسامح؟
ولماذا كان الأقباط الذين سميت مصر باسمهم في اللغات اليونانية واللاتينية القديمة، لماذا كانوا فاعلين وحاضرين بقوة في المنتصف القرن الماضي وعلى كل الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية، بل واحتلوا الصدارة في الريادة لتأسيس الحركات الفنية كالمسرح والسينما والموسيقى والأمثلة عديدة، هذا إلى جانب موجات الترجمة والتأليف وتزعّم الحركات الإصلاحية والجمعيات الناشطة في المجتمع المدني، وكل ذلك من دون تململ أو تنافر أو ما يلوّح بفتنة في المجتمع المصري الذي عرفت عنه روح التسامح والتآخي والانفتاح على الوافد من الثقافات الأخرى.
وإذا انتقلنا إلى ما يعرف ببلاد الشام الكبرى أي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، فإنّ الحضور المسيحي يكاد يكون هو الأوضح والأكثر تأثيرا في جميع مجالات الحياة العامة والنشاطات السياسية وذلك بداية من كبار منظري ومؤسسي القومية العربية كميشال عفلق أو الشخصيات اليسارية الماركسية كدانيال نعمة وجورج حاوي أو القومية السورية كأنطون سعادة أو ذوي التوجه الوطني الليبرالي كفارس خوري الذي شغل منصب رئيس الوزراء وعيّن أيضا وزيرا للأوقاف ويحظى بشعبية كبيرة في أوساط المسلمين.
أمّا في لبنان فقد كان المسيحيون يشكلون الغالبية تقريبا في بداية الاستقلال وتمتّعوا بحظوة زاد من تعزيزها دستور البلاد الذي ينصّ على أنّ رئيس الجمهورية يجب أن يكون مسيحيّا بالإضافة إلى المحاصصات الطائفية التي ينتقدها كثيرون ويرونها تفخيخا سياسيا ينذر بالانفجار عند كل خلاف حكومي.
الإسلام السياسي زاد من عزلة العرب المسيحيين وخوفهم في بلدانهم عبر جرائم التقتيل والسبي والتشريد
هذا وقد بلغ الحضور المسيحي أوجه في مراحل معينة من التأهّب والاحتقان والتلويح بهم كورقة ضغط، ممّا جعل محللين يربطونه بأجندات سياسية وترتيبات غربية تعدّ في مطبخ هذا البلد الصغير في سبيل الإطلالة على مشاريع أكبر بالمنطقة.
يعدّ مسيحيو فلسطين الأكثر حظوة والتصاقا بالوجدان الشعبي العربي وذلك لخصوصية القضية الفلسطينية وحالة التعاطف العام ثمّ أنّ أسماءهم وشخصياتهم قد ارتبطت بمسيرات أصحابها وخرجت من أطرها الطائفية مثل وديع حداد وجورج حداد وكمال ناصر ونايف حواتمة في منظمة التحرير وإبراهيم وفدوى طوقان في الأدب وإدوارد سعيد في الفكر وهاني جوهرية في السينما.
أمّا في العراق فللمسيحيين كما في سوريا أيضا جذور ضاربة في القدم وكان لهم أدوار سياسية متباينة ولعلّ هذا ما يدلّل على أنهم لا يتصرفون كأقلية تتخذ خياراتها ضمن اتجاه واحد وموحّد أو وفق التمركز حول هاجس الحضور وافتكاك المناصب، لكنهم برزوا أكثر في مجالات الفكر والفن والعلوم الطبية والهندسية وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة التوقف عند رغبة بعض الأنظمة التي تحتوي بلدانها على أقلية مسيحية في تأثيث حكوماتها بأسماء مسيحية للاسترضاء أو المغازلة السياسية أو للتدليل على انفتاحها كواجهة إعلامية يسوّقونها إلى الخارج.
جاء الإسلام السياسي ومعه العصابات الإرهابية ليزيدا من عزلة العرب المسيحيين وخوفهم في بلدانهم عبر جرائم التقتيل والسبي والتشريد كما تفعله داعش وأخواتها ممّا اضطرهم للهجرة والاستقرار في الغرب الأوروبي والأميركي، الأمر الذي فتح باب المزايدات السياسية عبر استخدامهم ورقة ضغط وابتزاز في سياسات كثيرة وهدّد ثقافة التعايش والتسامح في بلدان ساهم أبناؤها المسيحيون في استقلالها وبناء نهضتها والمساهمة في تنميتها.
حكيم مرزوقي
صحيفة العرب اللندنية