يتساءل الكثيرون لماذا انتشرت الطائفية والقبلية والجهوية في هذه الحقبة من تاريخ العالم العربي؟ لماذا الخلافات نحت إلى التطرف والعداء المغالى فيه، ووصلت إلى حل النزاعات بالبندقية والمتفجرات، ولم تأخذ طابع الخلاف السلمي؟
لماذا أوصلت الجهوية ليبيا إلى وضع مأسوي يترحم فيه الجميع على أيام القذافي القاتل؟ وفي العراق يضطهد الشيعة والسنّة بعضهم البعض، وتتم تصفية الأقليات العرقية بأسلوب بربري بشع، ويترحم العراقيون على أيام صدام الدموي، والوضع نفسه في اليمن السعيد وسورية الجميلة؟
في أيام الحكم العثماني والاستعمار البريطاني والحكم الملكي، كانت هناك خلافات، نسبياً لم تكن تذكر مقارنة بما يدور الآن من مجازر دموية، تركت مئات آلاف القتلى وأضعاف ذلك من الجرحى، وملايين المهجرين في سورية والعراق، وأقل من ذلك ولكن بالآلاف في الدول الأخرى.
عند استعراضنا هذا لا ننسى مأساة لبنان الناجمة عن الاقتتال الطائفي، في منتصف سبعينات القرن الماضي، ولولا مؤتمر الطائف لاستمر القتال بين الطوائف المختلفة بما فيها الفلسطينيون الذين هاجروا إلى لبنان بحثاً عن ملجأ آمن، ولكن أُدخلوا في الصراع اللبناني الداخلي.
في المغرب والأردن والسعودية، ودول الخليج العربي، هناك طوائف وقبائل وخلافات تبرز إلى السطح وتختفي، لكنها لا تؤدي إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجرين داخل الوطن وخارجه.
هذا موضوع شغل بال كثيرين من السياسيين والمثقفين والمواطنين، إما لعيشهم هذه المأساة، أو لخوفهم على مجتمعاتهم من الانجراف إلى نار الاقتتال الطائفي والقبلي والجهوي.
للتعليق على هذه النقطة الجوهرية أود أن أذكر بعض الملاحظات:
1- عندما تكون هناك سلطة مركزية قوية كما كانت الدولة العثمانية، أو جيش الاحتلال الفرنسي أو البريطاني أو الإيطالي، تختفي التحزبات حول «تجمع» يحمي المواطن من الخطر الخارجي لأن السلطة المركزية للدولة تحمي المواطن.
2- في دول مثل المغرب والسعودية والأردن ودول الخليج التي تحكمها أنظمة وراثية مستقرة لقرون أو عقود طويلة، الفساد هو أقل بكثير مما هو عليه في الدول ذات النظام الجمهوري، والسلطة الأبوية للملك أو الشيخ أو السلطان يؤمن بها المواطنون، ويعتبرون حاكمهم راعي البلد وحاميها، يوفر الأمن للطوائف والأقليات وهو على مسافة واحدة من الجميع، لذلك تقل الرغبة بالاحتماء بسلطة الطائفة أو القبيلة.
3- الرغبة غير المدروسة والساذجة للأميركيين بنشر الديموقراطية في العراق أدت إلى انفجار مخزون تراكم لمئات السنين من الإرث الطائفي، وتحت شعار الديموقراطية ترأست القيادات الدينية التجمعات السياسية وقادتها إلى مزيد من التطرف واضطهاد المذاهب والأقليات الأخرى، تحت شعارات دينية تعتبرها مقدسة وغير قابلة للنقاش.
4- الربيع العربي بكل براءة الشباب الذين قادوا هذه التحركات والذين اندفعوا أو دُفعوا تحت شعار الديموقراطية إلى إسقاط الدولة الديكتاتورية المركزية. وبسقوط الديكتاتوريات الفاسدة والظالمة وسقوط مؤسسات الدولة تحزبت الشعوب كل حول طائفته وجهته التي تحميه ضد الأخطار، وانتشرت الطائفية والجهوية والقبلية في ليبيا واليمن، وسورية ليست بعيدة عنها. وتم ربط الدين بالسياسة، مما أخرج لنا الملالي السياسيين «المعصومين عن الخطأ».
5- تدخل إيران السافر وغير المبرر في الأمور الداخلية للدول العربية وسعيها لتشكيل ميليشيات مؤثرة داخل الدول العربية (في لبنان والعراق واليمن وبعض دول مجلس التعاون) بهدف تحجيم سلطة الدولة المركزية كما هو حاصل في لبنان، بحجة مسؤولية إيران عن أبناء الطائفة الشيعية في الدول العربية، هذا التدخل أدى إلى ازدياد حدة الخلاف بين المذاهب الإسلامية، والاندفاع إلى خلافات طائفية تضعف الدولة المركزية وتعطي حق الفيتو للميليشيات المدعومة من إيران.
في رأيي الذي سيختلف معه كثيرون أن الشعوب العربية تحتاج إلى مزيد من التأهيل الحضاري واحترام الرأي والرأي الآخر، والقبول بالاحتكام إلى الحوار عند الاختلاف وليس الاحتكام إلى البندقية وتخوين الطرف المقابل، وذلك لكي نكون مؤهلين للحكم الديموقراطي. وما قاد لبنان إلى الصراع الدموي في القرن الماضي أو الحروب الدموية القاتلة في العراق وسورية واليمن وليبيا، هو إرث الفكر القبلي «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، والإصرار على عدم التسامح أو قبول احتمال صواب الرأي الآخر، وتضخم «الأنا» في فكر الشعوب العربية، وقد أدى كل ذلك إلى التطبيق الخاطئ للديموقراطية الغربية. وعندما فرض الأميركيون الديموقراطية الغربية على شعوب غير ناضجة لتطبيقها بالمفهوم الغربي نتج منه الصراع الدموي الحالي في العراق وسورية واستغلته إيران لبسط نفوذها الإقليمي.
أما في الكويت والبحرين، فقد أفرزت الأنظمة الديموقراطية تحزباً طائفياً، تسعى إيران لاستثماره من خلال تشكيل ميليشيات عسكرية وأحزاب وتجمعات وخلايا مرتبطة بها، وهذا ما كشفته التحقيقات الأخيرة في الدولتين.
لحماية حاضر ومستقبل شعوب المنطقة، المطلوب من حكماء وشباب الدول العربية الاتعاظ بالسلبيات الناتجة من الوضع العربي الحالي، وأن تسعى قيادات دول المنطقة للحرص على أنظمة مركزية رشيدة قوية، تسعى للقضاء على الفساد بكافة صوره وتعزيز فرص عمل للشباب بخاصة في المشروعات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، والسعي إلى تطبيق الديموقراطية مع عدم السماح ببروز السلبيات المدمرة للطائفية والقبلية، والتي نراها بوضوح في العراق وليبيا والكويت ولبنان والبحرين.
محمود عبد الخالق النوري
نقلاً عن الحياة