تفرج العراقيون قبل أيام على فصل من فصول مسرحية السيرك السياسي في العراق بعد أن انتقل الصراع بين أطراف تقاسم السلطة من الغرف المغلقة إلى المسرح العلني، بأداء يشير إلى ما وصل إليه حكام بغداد من استهجان واستخفاف بهموم الشعب المظلوم، واستهانة بمعاناة الملايين الأربعة النازحين من بيوتهم في المحافظات العربية السنية، والضغوط الحياتية المرّة التي يعيشها باقي العراقيين في انعدام الخدمات العامة مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم، حيث سرق الحكام أو غطوا على إمبراطورية الفساد التي نهبت أموال الناس خلال الثلاث عشرة سنة الماضية، وكذلك استباحة ثلث أراضي العراق من قبل داعش.
جاءت المسرحية من قبل الأحزاب الحاكمة بعد أن أنهت مفاعيل الحراك الشعبي المتمثل بالتظاهرات التي انطلقت عام 2011 في المحافظات العربية السنية، والتي قمعت وسحقت، ومجزرة الحويجة تشهد على ذلك حيث تمّ قمع الاعتصام بالسلاح واستشهد العشرات تحت ذرائع اندساس الإرهاب وداعش، ثم تمّ إنهاء التظاهرات الشعبية التي قادتها القوى المدنية (الشيعية في محافظات الوسط والجنوب عام 2015 وبداية 2016 بأساليب غير دموية تحت شعار “إن هذه المظاهرات تستهدف الإسلام السياسي في البلاد”، ثم تمّ اختطافها من قبل مقتدى الصدر الذي واصل صراعه مع الأطراف الأخرى بالحكم، وفي مقدمتها نوري المالكي، مستخدما جمهور الشارع المسيّس للأيديولوجية المذهبية ومواصلا معركة تقاسم السلطة.
ولكن لعبة الصدر انتقلت إلى مؤسسة البرلمان تحت شعار حكومة التكنوقراط، وهي لعبة غير متقنة لأن التكنوقراط يأتون من بطون تلك الأحزاب وخصوصا التيار الصدري، واضطرّ رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى التعاطي معها رغم عدم قناعته بها، لكنه حاول مجاراة الصدر، ولم يتمكن من إتمامها مما خلق أزمة داخل البرلمان تسببت عوامل كثيرة عند البرلمانيين في تفجيرها، وفي مقدمتها الشعور بغياب شخصية البرلماني تحت هيمنة رئيس الكتلة، إضافة إلى المشاعر الوطنية لدى بعض البرلمانيين في محاولة الخلاص من المحاصصة، لكن اللعبة الأخطر هي التي أدارها الصدر بمواجهة المالكي فهناك صراع بينهما على قيادة الشارع.
ففي الوقت الذي صعّد فيه الصدر في تسخين جمهوره ضد “السلطة” لتهديد الآخرين في نصبه خيمة بالمنطقة الخضراء، ثم قفزه إلى بيروت واجتماعه بحسن نصرالله في تحرك قيل بأن إيران أدارته بمهارة، لكي لا يخرج الصدر عن حساباتها في الحفاظ على العراق تحت الخيمة الإيرانية، وعدم انفلات الأمور وانهيار العملية السياسية، وهكذا بدت فصول المسرحية تتحرك بسرعة حيث انقلب الصدر على معتصمي البرلمان، بل أراد أن يشعر رئيس البرلمان الذي وصل حافة الهاوية بفقدان منصبه، بأنه هو الذي ثبت منصبه وبرلمانه وذلك على لسان رئيس كتلته بالبرلمان، حاكم الزاملي، الذي أعلن داخل جلسة البرلمان التي عاد فيها الجبوري رئيسا “إن مقتدى الصدر هو الذي أبقى وثبّت البرلمان”. وهكذا أعلن سليم الجبوري عن توافقه مع الأحزاب الكبيرة على إنهاء الاعتصام البرلماني مقابل تقديم العبادي قائمة التكنوقراط، وهو الذي كشف بأنه لا حول له ولا قوة، وليس لديه خطة واضحة تستجيب للثقة التي منحها له الأميركان، إنما تتجاذبه ردود الأفعال ومراكز القوى.
اضطرّ الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أن يعلن خلال الأزمة الأخيرة عن دعمه للعبادي، ولم تعترض إيران على هذا الدعم الاستثنائي، ومع ذلك لم يتمكن من إدارة صراع مراكز القوى، ولهذا فوضعه صعب للغاية. كما كشفت مسرحية البرلمان عن استماتة القطاع العربي السني في الحفاظ على المكاسب الشخصية للبرلمانيين السنة الذين يفكرون في الحفاظ عليها والحصول على مكاسب جديدة، وعلى رأسهم سليم الجبوري الذي اعتقد أنه بموالاته للحيتان الكبيرة من الزعامات الشيعية سيستفيد من معركة أهل الحكم، وسيحافظ على كرسيه إن أجاد لعبة الموالاة على حساب المبادئ، حيث وقع معهم ما سمي “وثيقة الشرف”، واضطرّ إلى التنصل منها حينما ضغط عليه الصدر، كما ظن أنه يلعب “سياسة”، وحقيقة الأمر أنه نفذ رغبات الكتلتين الشيعية والكردية في عدم المسّ من مكاسب التقاسم غير النزيه، وبذلك عوضوه بدعمهم له بإبقائه على رئاسة البرلمان، على طريقة “النظام والقانون” لدرجة أنهم أخذوا يُظهرون فيها المعتصمين بأنهم “شلة من المشاغبين والفوضويين” وعليهم العودة إلى جادّة الصواب.
وكانت لعبة القوى السياسية الكبيرة من داخل البيت الشيعي هي تهدئة مقتدى الصدر وتطمينه بترويج كابينة التكنوقراط الحكومية، لكن ما حصل يوم السبت الماضي هو اللعب على الصدر الذي انتفض ودعا جمهوره إلى اقتحام المنطقة الخضراء ومبنى البرلمان ومبنى مجلس الوزراء، وحصل ما حصل من فوضى عارمة وانهيار كامل للعملية السياسية، وهروب عاجل لغالبية أعضاء البرلمان من المنطقة الخضراء، واضطرار العبادي إلى إعلان حالة الطوارئ القصوى في بغداد، ودخول القوى الحاكمة في حالة هلع ممّا يجري، والتنادي إلى اجتماعات غير مجدية في ظل دعوات إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
كشفت مسرحية البرلمان عن الاصطفافات داخل العملية السياسية، فالجميع داخل هذه العملية يستقتلون من أجل الحفاظ عليها وعلى مكاسبها الذاتية على حساب الشعب، وجميعهم يستخدم الشعارات غير المقنعة للشعب مثل “الدفاع المستميت ضدّ أعداء العراق وأعداء العملية السياسية”، في حين أن جميعهم غارقون في الفساد الذي أوصل العراق إلى ما هو عليه الآن.
حاولت قوى تقاسم السلطة إنتاج نفسها رغم الكارثة التي يمرّ بها العراقيون، ووفق ذات المعادلة الطائفية، ولعل السبب في خطوتهم تلك دعم كلّ من طهران وواشنطن لهم. إن محاولات واشنطن متواصلة لإنقاذ هذه العملية، وقد حضر نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى بغداد قبل يوم واحد من اقتحام المنطقة الخضراء محاولا ترميم الحالة عبر إجراء تغييرات شكلية في طاقم الحكومة للتمويه على الرأي العام الشعبي بأنهم “سائرون في حركة الإصلاح”.
ما يحصل اليوم في هذه المسرحية هو مرحلة من مراحل صراع متقاسمي السلطة حول المغانم، وحول من يكسب رهان الشارع للأيام المقبلة، خصوصا ما بين الصدر والمالكي الذي لا يتوقع بأن هدفه هو العودة إلى رئاسة الوزراء، وإنما إلى صناعة رئيس الوزراء الذي يمثل خطه الطائفي المتطرف، ولا علاقة لشعب العراق بها. لقد استطاعوا القضاء على انتفاضة الشعب ضدّ الفساد والطائفية، ولعل ما يجري في العراق الآن هو وضع متدهور قد يقود إلى الأسوأ في الأيام المقبلة خصوصا في ظل الانهيار الاقتصادي واحتلال داعش ومشكلة النازحين واللاجئين وانهيار منظومة الخدمات.
ولعل إنقاذ العراق لن يتمّ من داخله إلا بدعم إقليمي ودولي، إن الجميع ومن ضمنهم دول الغرب يراقبون ما يحصل، ولا يستبعد إذا ما أراد المجتمع الدولي أن يساعد العراقيين فيمكنه ذلك عن طريق فرض الوصاية على العراق، والسماح للقوى الوطنية العراقية والشخصيات غير الملطخة بالفساد والطائفية، لكي تأخذ مسؤولياتها في صناعة النظام السياسي البديل.
* نقلاً عن “العرب”