في الوقت الذي يبدو فيه الإسلام محاصراً ويتعرض لحرب طائفية تهدد كيانه من الداخل ولحملة إسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) تحاصره من الخارج، أتى فوز مرشح حزب العمال البريطاني النائب والوزير السابق صادق خان، الباكستاني الأصل، ليصنع التاريخ ويصبح أول مسلم يتولى منصب عمدة لمدينة لندن، وأول مسلم يكون عمدة لعاصمة في الاتحاد الأوروبي، ولندن هي المدينة الأكبر في أوروبا، وإحدى أكبر مدن العالم الصناعي، وحاضرة الإمبراطورية البريطانية التي سيطرت على ثلث العالم، بما في ذلك شبه القارة الهندية.
ويمثل فوز صادق خان بهذا المنصب نقلة نوعية غير مسبوقة في صعود المسلمين في أوروبا، ونقطة فارقة مضيئة في الصراع ضد الإسلاموفوبيا والرهاب من الإسلام والمسلمين، وخاصة أنه يأتي في أجواء معادية ورافضة للتعايش مع المسلمين في الغرب، الذي تحولت الجاليات المسلمة في بعض دوله إلى جاليات مدانة ومتهمة بالتطرف والإرهاب وبعدم الاندماج في مجتمعاتها. وتضاف إلى ذلك هواجس تهديدات «القاعدة» و«داعش»، وخاصة بعد تفاقم تجنيد بعض المواطنين الأوروبيين من أصول عربية وإسلامية للقتال مع «داعش» في سوريا والعراق وعودة بعضهم لشن هجمات في قلب المدن الأوروبية، كما وقع في باريس أكثر من مرة وفي بروكسل وحتى في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، ولذلك يشكل انتخاب صادق خان الآن تصحيحاً لتلك الصورة النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين. ما قد ينسحب إيجاباً على بقية أوروبا، وقد يعبُر المحيط إلى الولايات المتحدة أيضاً، لمواجهة وكسر ذلك الجدار الفولاذي الذي يحاصر الجاليات المسلمة في الغرب. ويعزلها عن الاندماج بسبب حملة التخوين والكراهية والتخويف من الإسلام والمسلمين في ظل حملة عداء شرسة على الإسلام يشنها اليمين الأوروبي، وكذلك مرشح الرئاسة الأميركية الجمهوري دونالد ترامب المثير للجدل بمواقفه وخطابه العنصري.
وقد اشتدت ظاهرة الإسلاموفوبيا، بعد هجمات «القاعدة» قبل عقد ونصف العقد في 11 سبتمبر 2001 في أميركا، وتضاعفت أكثر مع وحشية وجرائم تنظيم «داعش» واستهدافه العواصم الغربية، كما ساهم تدفق اللاجئين، وخاصة من سوريا وبعض الدول الإسلامية الأخرى كباكستان وأفغانستان وغيرهما، في تعميق حالة العداء والكراهية للمسلمين بتأجيج من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي وضعت ضمن برنامج عملها رفض استقبال اللاجئين ومنع بناء المساجد أو بناء المنارات والأذان، وغير ذلك من القرارات التي تضيّق على المسلمين الأوروبيين الذين يتجاوز عددهم عشرين مليوناً. هذا باستثناء المسلمين الروس، وكذلك المسلمين الأميركيين الذين باتوا هدفاً لحملة عداء سافرة وصلت إلى حد رفض السماح في حالات لمسافرين مسلمين أميركيين من صعود الطائرات أو منعهم من السفر وإلغاء سفرهم لأن أحد المسافرين الأميركيين اشتكى بأنهم يتحدثون بالعربية، أو قال أحدهم: «إن شاء الله»! وفي حالة من الحالات مُنعت عائلة مسلمة بريطانية من السفر إلى لوس أنجلوس من لندن على متن خطوط أميركية دون إبداء الأسباب.
وقد استغل ساسة أميركيون وأوروبيون هذه الموجة من العداء الشعبوي الغربي للمسلمين، حيث وصل العداء بترامب بعد اعتداءات باريس وسان برنادينو إلى حد المجاهرة بكل عنصرية بنيته مراقبة أحياء المسلمين الأميركيين وهو ما رفضه رئيس شرطة نيويورك. وهذا لا يدل فقط على عنصرية ترامب، بل على جهله أيضاً، لأن المسلمين الأميركيين من أنجح الأقليات، ومتوسط مستوى دخل وتعليمهم أعلى من متوسط تعليم ودخل الأميركي العادي، وهذا يؤهلهم للعيش في مناطق وأحياء متعددة وليس في أحياء فقيرة يمكن مراقبتها! كما أطلق ترامب أيضاً مواقف متطرفة وغارقة في العنصرية باقتراحه فرض حظر على دخول المسلمين للولايات المتحدة، ريثما يتم التوصل إلى آلية للتعامل معهم! ما أثار غضب المسلمين حول العالم وداخل الولايات المتحدة نفسها، وتم التوقيع على عريضة لمنع ترامب من دخول بريطانيا، بعد وصف رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لمواقف ترامب بالخاطئة والحمقاء.
وقد شكل فيه فوز صادق خان بمنصب عمدة لندن صدمة إيجابية يُؤمل أن تساعد على تحسين العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب على نحو نتجنب فيه صراع الحضارات، وفي الوقت الذي يعج فيه الإعلام الغربي بخبر فوز أول مسلم بمنصب عمدة لندن، ويقدم صادق خان نفسه، بكل ثقة بقوله: «أنا فخور بأنني مسلم. أنا لندني، أنا بريطاني من أصول باكستانية، وأب وزوج ومناصر لفريق ليفربول. أنا كل هذا». ومن الملفت أنه بدلًا من أن يبدي بعض المسلمين موقفاً يظهر إيجابية انتخاب صادق خان، تابعت بألم على وسائط التواصل الاجتماعي مناوشات وتجاذبات خاصة بين المغردين يتساءلون عما إذا كان صادق خان شيعياً أو سنياً، والبعض علق بأن صادق خان أول مسلم شيعي، يصبح عمدة للندن! زاعمين أنه لن يخدم قضايا الإسلام والمسلمين! بينما عرف صادق خان عن نفسه قائلاً: «أنا فخور بأن أكون مسلماً»، ولم يقل مسلماً سنياً أو شيعياً! فمتى نتخطى نحن في عالمنا العربي الإسلامي الاستقطابات المذهبية الضيقة؟ وحتى فوز صديق خان تجيّره طائفة بأنه انتصار لها على حساب الطائفة الأخرى! فما هذا التفكير القاصر؟
والراهن أن أهم انتصار سجله صادق خان هو انتصار التسامح والتعايش على التطرف والإسلاموفوبيا، ورفض خطاب العداء ضد الإسلام والمسلمين وأفكار اليمين الأوروبي والأميركي، وفي كل هذا رسالة مهمة للمسلمين ليتعلموا أن الصراع الطائفي مدمر! فمتى نتعلم ونعمل معاً من أجل القضاء على طائفية الداخل وإسلاموفوبيا الخارج؟
د. عبدالله خليفة الشايجي
نقلا عن الاتحاد