تشعر الصين، كل يوم، أنها أقوى، وتعتقد أن أزمة 2008 العميقة تدلل، مرة أخرى، على أزمة القوى الغربية التي لم تعد قادرةً على التحكم بالعالم، كما كان من قبل، ما يمنحها فرصة أكبر لتعزّز دورها الاقتصادي على المسرح العالمي، من دون أن تغير من نهجها السياسي الذي يتسم بالحرص على عدم الاصطدام السياسي مع الغرب، ثقةً منها بأن تعزيز قوتها الاقتصادية هو ما سيمنحها، مستقبلاً، دوراً سياسياً رئيساً على الساحة العالمية، عندما يصبح اقتصادها أكبر، ودورها الاقتصادي أكبر، وهو الآن كبير كفاية، حيث يزيد ناتجها المحلي عن عشرة آلاف مليار دولار، مقابل دخل الولايات المتحدة الذي يزيد عن 17 ألف مليار دولار، وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم اليوم بفارق كبير عمن يليها في الترتيب. ويعبر المشروع الكبير الذي تطرحه تحت مسمى “مشروع الحزام والطريق” عن طموحها هذا في المجال الاقتصادي، والذي تعزّزه بقدرتها التكنولوجية، وإطلاق أول مركبة فضائية مأهولة صينية في يونيو/ حزيران عام 2013، وبقدرتها العسكرية، وتدشين أول حاملة طائرات صينية في أغسطس/ آب 2013. ولكن، يبقى موقفها حازماً فيما يتعلق بحياضها، أي مجالها الحيوي في بحر الصين، وإعادة توحيد الصين، بما فيها إعادة ضم هونغ كونغ ومكاو تايوان إلى البر الصيني بشكل نهائي.
هذا هو الانطباع الذي تعزز لدي في زيارتي الصين، عشرة أيام، بدعوةٍ من الحزب الشيوعي الصيني، للمشاركة في مؤتمر الحوار بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب العربية ممثلاً للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهو الرأي الذي يستند إلى اهتمامي القديم بالصين والسياسة الصينية والاقتصاد الصيني، وقد بحثت وكتبت أكثر من دراسة، وأصدرت كتاباً عن الموضوع. وفي مقالة سابقة نشرت في “العربي الجديد” (12إبريل/ 2016)، قدمت رؤية حول تجربة الصين، وطريقها الخاص والفريد في تحقيق التنمية الاقتصادية. وأكمل هنا عن توجهات الصين الاقتصادية الجديدة.
الصين مستمرة اليوم بما قرّرته منذ السبعينيات، أي أن تلعب دوراً سياسياً ثانوياً على المستوى الدولي، مقابل أن تفتح لها دول الغرب أسواقه لمنتجاتها الخفيفة، واستقبال استثمارات أجنبية في الصين، تسهم في تنميتها. وكان هذا الطريق الوحيد أمامها للنمو، وقد لعبت اللعبة بذكاء. واليوم، أصبحت قوة اقتصادية منافسة للقوى الغربية، وتسعى إلى أن تنضم إلى نادي الكبار بشروطهم نفسها، ولا تسعى إلى تغيير قواعد لعبة الكبار الآن، فهذه القواعد موضوعة لمصلحة الكبار. والصين اليوم أصبحت من الكبار. لذا، تحرص على هذه القواعد، لكنها تطلب دوراً أكبر، إنها تقول: “أصبحت قوية مثلكم وأريد حصتي”. وهذا يذكّر بما فعلته ألمانيا وإيطاليا القادمتان الجديدتان للثورة الصناعية، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تطالبان بحصتيهما من غنيمة تقاسم العالم. وعندما رفضت القوى المسيطرة آنذاك، بريطانيا وفرنسا، منحهما حصة مرضية، دخلتا في حربين عالميتين أولى وثانية، لكن الصين اليوم لا تبحث عن أي دخول في حروب ساخنة مكلفة، ولا تلجأ إلى المواجهة، ولا تحب أن تلعب لعبة الاقتحام والالتحام على طريقة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بل تود أن تأتي خلسةً، من دون ضجيج، عبر المنافسة بأدوات اقتصادية وتجارية، ما يمنحها قوة أكبر مستقبلاً، بما في ذلك قوة عسكرية وسياسية كافية، لتحقيق مصالحها وفرضها على الآخرين. لذلك، انتسبت الصين لكل تلك المؤسسات، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية. وتطالب بزيادة حصتها ودورها فيها.
“تبدي الصين اهتمامها بدول أواسط آسيا وأفريقيا، فهي تعتقد أن هذه المناطق ما زالت مناطق نمو واعدة، وهي توجه كثيراً من استثماراتها، أخيراً، لهذه البلدان، وتستمر بتقديم نفسها على أنها من العالم الثالث”
ولكن، إن كانت الصين اليوم قد سعت إلى الانضمام لهذه المؤسسات، لما فيها من فائدة، فمن الطبيعي أن تملك، في الوقت نفسه، رغبة دفينة في تغيير أدوار المؤسسات التي شكلتها الولايات المتحدة في اتفاقيات بريتون وودز، أواسط أربعينيات القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية، فالصين تعلم أن التاجر الأكبر في السوق هو من يضع قواعد عمل السوق، وأن تلك القواعد وضعت لصالح الأميركان. وتطمح الصين إلى فائدة أكبر، من خلال تشكيل مؤسسات جديدة، تلعب هي فيها الدور الموجه، وليس مجرد إصلاح المؤسسات القديمة. وقد ساهمت، مبكراً، بتأسيس منظمة شنغهاي للتعاون منذ 2001، والتي تضم روسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، والتي تهدف إلى تعزيز التعاون بين هذه الدول في كل المجالات، وتحديداً في “دفع تأسيس نظام دولي ديمقراطي عادل وعقلاني”. وتعمل مع شركاء “البريكس” على تأسيس مؤسساتٍ جديدة، فقد أسست بنك الاستثمار الآسيوي وصندوق الحزام والطريق، وشاركت في مجموعة البريكس التي تضم أيضاً الهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، كما طرحت عملتها اليوان لتكون عالمية، وتسعى إلى توسيع استخدامها، ما يخلق لها منافع ريعية هائلة، مثلما خلقت وتخلق العملات الأخرى “الصعبة” لدولها منافع ريعية كبيرة، مثل الدولار الأميركي والجنيه الإسترليني واليورو والفرنك السويسري والين الياباني.
يتوقع خبراء أن شهر العسل الصيني الأميركي، والغربي عموماً، قارب على نهاياته، وقد استمر بينهما عندما بدأت الصين تزود الدول الغربية بسلع استهلاكية رخيصة، تعتمد على عمالة كثيفة بأجور منخفضة، لكن الصين التي قبلت المعادلة سعت، في الوقت نفسه، وضمن نهج مرسوم بدقة، وينفذ بصرامة ونجاح كبير، سعت إلى أن ترتفع في سلم القيم المضافة، وتنتقل من تصنيع سلع خفيفة، تعود عليها بعائد منخفض إلى تصنيع سلع كهروميكانيكية، ثم إلكترونية، أي دخلت حقل المنافسة مع المنتجات التي تصنعها الدول الغربية نفسها، وهذا يعني خسارة الغرب مزيداً من فرص العمل المرتفعة الأجور. وقد يؤدي هذا إلى ارتفاع حرارة “حرب باردة اقتصادية” بين الصين والدول الغربية، ولا تعرف نتائجها بعد. ويعكس هجوم المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، دونالد ترامب، على الصين، في تجمع ضم أنصاره في ولاية أنديانا، قلق دولة مثل الولايات المتحدة من نمو الصين الاقتصادي، معرباً عن رأيه بكلمات قوية إنه “لا يمكن الاستمرار في السماح للصين باغتصاب أميركا تجارياً”. وعلى الرغم من أنه هجوم انتخابي، لكنه يعكس وجود رغبة أميركية واسعة، لسماع هذا الرأي، وهو مطلب نقابي قديم، يرتفع كلما تم إغلاق مصانع أميركية أو أوروبية أو يابانية بسبب نقلها إلى الصين، حيث تجد الشركات نفسها مضطرةً للذهاب إلى الصين، وإغلاق مصانعها في أوروبا وأميركا واليابان، وحتى في كوريا والمكسيك، وتسريح عمالتها، والأمثلة كثيرة، ففي نهاية 2003، أعلن المدير التنفيذي لشركة فيليبس الهولندية العملاقة، جيرارد كلايسترلي، بشكل درامي، أنه ينبغي الانتقال إلى الصين أو الغلق. وفي النهاية، انتقلت “فيليبس” إلى الصين، وأغلقت معاملها في أوروبا، واستبدلتها بنحو 30 موقع تصنيع في الصين. واليوم، فإن لدى أكثر من 400 شركة من بين أكبر 500 شركة في العالم مراكز إنتاج واختبار وبحث وتطوير في الصين.
إن عجزاً تجارياً في ميزان أميركا التجاري مع الصين، والذي بلغ عام 2015 نحو 365.7 مليار دولار، ليس رقماً هيناً، ومن الصعب على أميركا أن تستمر في تحمّله، على الرغم من أن الصين تعوضها عبر ميزان المدفوعات، عندما تشتري سندات خزينة أميركية بمبالغ كبيرة من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإن نمو الصين يخلق طلباً أكبر على الدولار الأميركي، ما يمنح الولايات المتحدة فوائد ريعية كبيرة أخرى. ولكن هذه الفوائد تتقلص مع توسيع استخدام اليوان الصيني في التجارة الدولية، كما أن بعض القواعد الأساسية الناظمة للعلاقة الآن قد تتغير مستقبلاً لأكثر من سبب من أي من الطرفين، ما قد يؤدي إلى ارتفاع المطالبة بفرض ضرائب على الواردات الأميركية أو الأوروبية من الصين، بحجة مكافحة الإغراق لحماية الصناعة الوطنية، و هو الإجراء الأسهل. وقد يتخذ الأمر أبعاداً أكثر من ذلك، وقد تتجه نحو “حرب باردة اقتصادية جديدة” كما ذكرنا. لكن، يبدو أن الصينيين مطمئنون لعدم تفاقم الأمور إلى هذا المستوى، وأن ثمة حلولاً أخرى، معتمدين على مصلحة الشركات المتنافسة في الحفاظ على علاقات تجارية عادية مع الصين.
يبدو أن وضع الصين جيد، فالدول المتقدمة ما زالت تسبقها علمياً وتكنولوجياً بعقدين أو ثلاثة، بينما تقف دول العالم الثالث خلفها بتفاوت، فيكون موقعها الآن في الوسط. وهي تسعى إلى تغيير قواعد ارتباطها السابق بالغرب، واعتمادها عليه، وقد سعت إلى إقامة شراكات جديدة ومؤسسات جديدة كما ذكرنا، وهي تبدي اهتمامها بدول أواسط آسيا وأفريقيا، فهي تعتقد أن هذه المناطق ما زالت مناطق نمو واعدة، وهي توجه كثيراً من استثماراتها، أخيراً، لهذه البلدان، وتستمر بتقديم نفسها على أنها من العالم الثالث، وليست من الدول الكبرى ذات الماضي الاستعماري، والتي تحب الهيمنة، مقابل الصين التي ليس لها ماضٍ استعماري، وتسعى إلى “الربح المشترك”، حسب تعبيراتهم. وقد أطلقت مشروعها “الكبير “مشروع الحزام والطريق”.