ستكون محاولة الحزب الجمهوري (الأميركي) معاملة دونالد ترامب كمرشح سياسي عادي (للانتخابات الرئاسية الأميركية) مثيرة للضحك لو أنها لم تكن محاولة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للجمهوريين. وسيكون كل شيء على ما يرام إن هو أدلى بالمبادئ “المحافظة” للحزب.
لكن من الطبيعي أن ظاهرة ترامب برمتها لا تنطوي على أي صلة بالسياسة أو الأيديولوجية. كما أنها غير ذات صلة بالحزب الجمهوري كذلك باستثاء دورها التاريخي حاضنةً لهذا التهديد المفرد الموجه لديمقراطيتنا. وفي الأثناء، نجد أن ترامب قد تجاوز الحزب الذي أنتجه. ولم يعد جيشه المتنامي من الداعمين يهتم بالحزب. ذلك أن الحزب لم يتبنَ ترامب مباشرة وعلى نحو كامل، لأن عدداً متذبذاً من قادته السياسيين والفكريين ما يزالون يقاومون ترامب”، فإنه ينظر للحزب بريبة وحتى بعداء من جانب أتباعه. فولاؤهم لترامب ولترامب فقط لا غير.
وما هو مصدر الولاء؟ من المفترض فينا أن نعتقد أن دعم ترامب يتأتى من الركود الاقتصادي أو الاضطراب، أو بشيء من هذا القبيل. لكن ما يقدمه ترامب لأتباعه ليست علاجات اقتصادية- فاقتراحاته تتغير كل يوم. ما يقدمه هو موقف، هالة من القوة الخام، ومركب عظمة وتبجح بعدم احترام لمحاسن الثقافة الديمقراطية التي يدعي بأنها أفرزت ضعفا قوميا وعدم كفاءة، وصدّقه في ذلك أتباعه. إلى ذلك، تشترك أقواله غير املتلازمة والمتناقضة بشيء واحد: فهي تستفز وتلعب على مشاعر الاستياء والازدراء الممزوجة بشيء من الخوف والكراهية والغضب. ويتكون خطابه العام من مهاجمة أو السخرية من طائفة واسعة من “الآخرين”- المسلمين والأميركيين اللاتينيين والنساء والصينيين والمكسيكيين والأوروبيين والعرب والمهاجرين واللاجئين- الذين يصورهم إما كتهديدات أو موضوعات سخرية. أما برنامجه، كما هو، فيتكون بشكل رئيسي من وعود للتعامل بخشونة مع الأجانب والناس من غير بيض البشرة، هؤلاء سيبعدهم وسيمنعهم وسيجعلهم يذعنون ويسددون ديونهم أو يقفلون متاجرهم.
ولقد أكسبته مقاربة الولد الخشن والمجنون أتباعاً ضخمين ومتحمسين بازدياد، ما أدهشه بمثل ما أدهش أي شخص آخر. أما ترامب نفسه فهو بسيط وهادئ وحرفي مغرور حد الهوس. لكن الظاهرة التي خلقها وتحتل المقدمة راهناً أصبحت شيئاً أضخم منه وشيئاً أكثر خطورة بكثير.
من جهتهم يتعجب الساسة الجمهوريون من الكيفية التي استطاع من خلالها الدخول إلى قطاع غير معروف حتى الآن من الجمهور المقترع. لكن ما استطاع الدخول إليه هو ما كان المؤسسون قد خافوا منه أكثر ما يكون عندما أسسوا الجمهورية الديمقراطية: العواطف الشعبية. وما يزال الديمقراطيون يحذرون منذ عقود من الحرية الخانقة للحكومة. لكن هنا يكمن التهديد الآخر للحرية الذي حذر منه اليكسيس دي توكوفي والفلاسفة القدماء: من أن الناس في ظل ديمقراطية يكونون متحمسين وغاضبين وغير منضبطين وقد يصبحون خشنين حتى مع المؤسسات التي خلقت للحفاظ على حرياتهم. وكما راقب ألكسندر تكشف الثورة الفرنسية فقد خاف أن يحدث في أميركا ما شاهده يتكشف في فرنسا- من أن تكشّف العواطف الشعبية سيفضي لا إلى ديمقراطية أكبر وإنما إلى وصول مستبد يصل للسلطة على أكتاف الشعب.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة نشأت في ديمقراطيات أخرى وفي بلدان شبه ديمقراطية في القرن الماضي ووصفت عموماً بـ ” الفاشية”. فالحركات الفاشية لا تتوافر ما لم يكن لديها أيديولوجية متماسكة ومجموعة واضحة من الوصفات الطبية لمجتمع مريض. ومثلت ” الاشتراكية الوطنية” حزمة من التناقضات الموحدة بشكل رئيسي؛ بماذا عارضت ومن عارضت. وكانت الفاشية في إيطاليا معادية لليبرالية ومعادية للماركسية ومعادية للرأسمالية ومعادية للكنيسة. ولم تكن الفاشية الناجحة حول السياسات وإنما حول الرجل القوي الذي يمكن أن يعهد إليه بمصير الأمة. ومهما كانت المشكلة فإنه يستطيع تصليحها. ومهما كان التهديد، داخليا أم خارجيا، فإنه بستطيع قهره، وكان من غير الضروري بالنسبة له شرح كيف يتم ذلك. واليوم ثمة النزعة البوتينية التي لا صلة لها أيضاً بالاعتقاد أو السياسة لكنها تتمحور حول الرجل الخشن الذي يدافع وحده عن شعبه أمام كل التهديدات الأجنبية والمحلية على حد سواء.
ولفهم كيف يمكن لهذه الحركات أن تحل محل الديمقراطية فإن على المرء أن يراقب وحسب الحزب الجمهوري اليوم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحركات تعزف على وتر كل المخاوف والخيلاء والطموحات وحالات عدم الأمان التي تشكل المرض النفسي البشري. في الديمقراطيات، على الأقل بالنسبة للساسة فإن الشيء الوحيد الذي يهم هو ما يقوله المقترعون-صوت الشعب هو صوت الله. وهكذا فإن حركة سياسية جماعية هي سلاح مفعم بالقوة ومخيف بالنسبة لمن يعارضها. وعندما يسيطر عليها وتوجه من جانب زعيم مفرد فمن الممكن أن تستهدف من يختاره الزعيم. وإذا انتقد أحد ما أو عارض الزعيم فمن غير المهم كم كان يتمتع بشعبية أو بإعجاب. وقد يكون بطل حرب مشهوراً لكن إذا سخر الزعيم وهزأ ببطولته فإن الأتباع سيحذون حذوه. وقد يكون الخادم المنتخب الأعلى مرتبة لمبادئ الحزب المثلى. لكنه إذا تردد في دعم الزعيم فسيواجه الموت السياسي.
روبرت كيغان
صحيفة الغد