لا يتفق المفكر السياسي الأمريكي ناعوم تشوميسكي مع الاعتقاد السائد بين قطاع واسع من السياسيين والرأي العام بأن الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم أمر محسوم، وأنها إحدى المسلّمات المفروغ منها حالياً وإلى أجل غير مسمى. يرى الكاتب اليساري الشهير أنه لا يجب التعامل مع سيطرة الولايات المتحدة على العالم باعتبارها حقيقة كونية مطلقة بل واقع سياسي نسبي قابل للتغيير.
بناء على هذه الرؤية فإن قدرة واشنطن على فرض إرادتها على الشأن العالمي تظل مقيدة بمجموعة من الاعتبارات والتوازنات تجعل لنفوذها حدوداً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل تجاوزها. كما تجعل استمرار مستوى وحجم سيطرتها الحالية في المستقبل أمراً مشكوكاً في حدوثه.
وفي أحدث كتبه «من يحكم العالم؟» الذي عرضنا جانباً منه الأسبوع الماضي، يناقش تشوميسكي مجموعة من التحديات تكبح جماح القيادة الأمريكية حالياً وفي المستقبل. ويعتبر أن جيديون راشمان محرر الشؤون الخارجية في «فينانشيال تايمز» كان موفقاً للغاية بملاحظته الذكية أن التحديات الكبرى التي تواجه واشنطن تنبع من نفس مناطق سيطرتها التقليدية. وتتوزع هذه المناطق في الأقاليم الثلاثة التي تنتشر فيها القوات الأمريكية بكثافة وهي شرق آسيا حيث تحول المحيط الهادي إلى بحيرة أمريكية. ثم أوروبا التي تستضيف القوة الضاربة لحلف الناتو. وأخيراً الشرق الأوسط موطن القواعد العسكرية الأمريكية الدائمة والمتحركة.
مشكلة واشنطن الكبرى الآن أن وجودها العسكري في الأقاليم الثلاثة أصبح يواجه بقدر من التحديات غير المسبوقة. المثال الأوضح على ذلك في المنطقة الأولى أي شرق آسيا التي يتمدد فيها العملاق الصيني بقدرات وإمكانيات وطموحات لا نهائية. لم تعد الصين تكتفي ببسط سيطرتها داخل حدودها، ولكنها مثل أي قوة صاعدة عبر التاريخ، تسعى إلى التمدد الخارجي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إذا لزم الأمر وفي الوقت المناسب.
تسعى الصين إلى تأمين طرق تجارتها البحرية المحاطة بالقوى المعادية لها تاريخياً والحليفة لأمريكا مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وللالتفاف على هذا الواقع الجغرافي والسياسي وللابتعاد عن الممرات المائية الخاضعة للسيطرة الأمريكية، تبذل بكين جهداً كبيراً للتوسع غرباً عبر آليات مثل منظمة شنغهاي للتعاون. وتنشط لإحياء طريق الحرير التجاري القديم وصولاً إلى أسواق الشرق الأوسط وأوروبا فضلاً عن آسيا.
في هذا الإطار أيضاً تضخ بكين استثمارات ضخمة لتطوير نظام آسيوي للطاقة والتجارة مدعوماً بشبكة هائلة من السكك الحديدية وخطوط الأنابيب. أحد عناصر هذا البرنامج الطموح يشمل تطوير ميناء جوادار في باكستان التي يبدو أن الصينيين يطمحون في تحويلها إلى منطقة نفوذ لهم سحباً من الرصيد الأمريكي. بل أن الطموح الصيني يمتد إلى ما هو أبعد، وتجربة إنشاء بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية أحد الأمثلة على ذلك. ويسود اعتقاد أن هذه المؤسسة المالية العملاقة التي تضم 56 دولة ستكون يوماً ما بديلاً عن المؤسسات الخاضعة للنفوذ الأمريكي مثل الصندوق والبنك الدوليين.
بطبيعة الحال تتابع الولايات المتحدة هذا التمدد الصيني بعدم ارتياح. ويزداد قلقها عندما تراقب النشاط المكثف للبحرية الصينية في المياه الإقليمية والدولية المتاخمة لحدودها.
من شرق آسيا إلى شرق أوروبا تتسع دائرة المتاعب الأمريكية التي يرصدها تشوميسكي. في القارة البيضاء تجري حالياً في أوكرانيا واحدة من حروب الإرادات العاتية بين الشرق والغرب. السبب الحقيقي للمعركة من وجهة نظره هو رغبة الولايات المتحدة في توسيع حلف الناتو شرقاً ليضم هذه الدولة بينما تعتبر موسكو هذا التوسع خطاً أحمر. نفس السبب كان المحرك الأساسي للحرب الروسية الجورجية عام 2014.
بناء على هذه الرؤية فإن قدرة واشنطن على فرض إرادتها على الشأن العالمي تظل مقيدة بمجموعة من الاعتبارات والتوازنات تجعل لنفوذها حدوداً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل تجاوزها. كما تجعل استمرار مستوى وحجم سيطرتها الحالية في المستقبل أمراً مشكوكاً في حدوثه.
وفي أحدث كتبه «من يحكم العالم؟» الذي عرضنا جانباً منه الأسبوع الماضي، يناقش تشوميسكي مجموعة من التحديات تكبح جماح القيادة الأمريكية حالياً وفي المستقبل. ويعتبر أن جيديون راشمان محرر الشؤون الخارجية في «فينانشيال تايمز» كان موفقاً للغاية بملاحظته الذكية أن التحديات الكبرى التي تواجه واشنطن تنبع من نفس مناطق سيطرتها التقليدية. وتتوزع هذه المناطق في الأقاليم الثلاثة التي تنتشر فيها القوات الأمريكية بكثافة وهي شرق آسيا حيث تحول المحيط الهادي إلى بحيرة أمريكية. ثم أوروبا التي تستضيف القوة الضاربة لحلف الناتو. وأخيراً الشرق الأوسط موطن القواعد العسكرية الأمريكية الدائمة والمتحركة.
مشكلة واشنطن الكبرى الآن أن وجودها العسكري في الأقاليم الثلاثة أصبح يواجه بقدر من التحديات غير المسبوقة. المثال الأوضح على ذلك في المنطقة الأولى أي شرق آسيا التي يتمدد فيها العملاق الصيني بقدرات وإمكانيات وطموحات لا نهائية. لم تعد الصين تكتفي ببسط سيطرتها داخل حدودها، ولكنها مثل أي قوة صاعدة عبر التاريخ، تسعى إلى التمدد الخارجي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إذا لزم الأمر وفي الوقت المناسب.
تسعى الصين إلى تأمين طرق تجارتها البحرية المحاطة بالقوى المعادية لها تاريخياً والحليفة لأمريكا مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وللالتفاف على هذا الواقع الجغرافي والسياسي وللابتعاد عن الممرات المائية الخاضعة للسيطرة الأمريكية، تبذل بكين جهداً كبيراً للتوسع غرباً عبر آليات مثل منظمة شنغهاي للتعاون. وتنشط لإحياء طريق الحرير التجاري القديم وصولاً إلى أسواق الشرق الأوسط وأوروبا فضلاً عن آسيا.
في هذا الإطار أيضاً تضخ بكين استثمارات ضخمة لتطوير نظام آسيوي للطاقة والتجارة مدعوماً بشبكة هائلة من السكك الحديدية وخطوط الأنابيب. أحد عناصر هذا البرنامج الطموح يشمل تطوير ميناء جوادار في باكستان التي يبدو أن الصينيين يطمحون في تحويلها إلى منطقة نفوذ لهم سحباً من الرصيد الأمريكي. بل أن الطموح الصيني يمتد إلى ما هو أبعد، وتجربة إنشاء بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية أحد الأمثلة على ذلك. ويسود اعتقاد أن هذه المؤسسة المالية العملاقة التي تضم 56 دولة ستكون يوماً ما بديلاً عن المؤسسات الخاضعة للنفوذ الأمريكي مثل الصندوق والبنك الدوليين.
بطبيعة الحال تتابع الولايات المتحدة هذا التمدد الصيني بعدم ارتياح. ويزداد قلقها عندما تراقب النشاط المكثف للبحرية الصينية في المياه الإقليمية والدولية المتاخمة لحدودها.
من شرق آسيا إلى شرق أوروبا تتسع دائرة المتاعب الأمريكية التي يرصدها تشوميسكي. في القارة البيضاء تجري حالياً في أوكرانيا واحدة من حروب الإرادات العاتية بين الشرق والغرب. السبب الحقيقي للمعركة من وجهة نظره هو رغبة الولايات المتحدة في توسيع حلف الناتو شرقاً ليضم هذه الدولة بينما تعتبر موسكو هذا التوسع خطاً أحمر. نفس السبب كان المحرك الأساسي للحرب الروسية الجورجية عام 2014.
الشرق الثالث الذي تهب منه عواصف الأزمات (بعد شرق أوروبا وشرق آسيا) هو شرقنا الأوسط. ويعتبره تشوميسكي منطقة المتاعب الكبرى لواشنطن وهو مسرح حربها العالمية ضد الإرهاب التي تحولت إلى عمليات قتل جماعية وحشية. وبسبب الرغبة الأمريكية في الهيمنة واستعراض القوة اتسعت الرقعة الجغرافية للحرب بعد أن كان من المفترض أن تتركز في منطقة قبلية صغيرة في أفغانستان لتدمير «القاعدة». ويعتقد المفكر الأمريكي أن هذا الهدف كان يمكن تحقيقه بعملية كوماندوز محدودة بالتوازي مع الضغوط السياسية. ومن أفغانستان امتد العدوان الأمريكي إلى العراق الذي دمرته واشنطن ثم تركته للفائز الوحيد من غزوها وهو إيران.
هذه الحرب على الإرهاب لم تحقق الأمن للعالم ولم تدعم الهيمنة الأمريكية بل جاءت نتائجها عكسية تماماً.
عاصم عبدالخالق
صححيفة الخليج