في الحروب التي خاضتها وتخوضها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق وغيرهما، يظهر الكثير من النقد وبعض المحاكمات لمخالفات تتعلق بتصرفات بعض الجنود، فيما يظهر القليل من النقد لفشل هذه الجيوش المجهزة بتكلفة كبيرة في إلحاق الهزيمة بالإرهابيين المسلحين تسليحاً خفيفاً، والذين دربوا أنفسهم بأنفسهم. ولا ينطوي السؤال على الأهمية التاريخية أو الأخلاق فقط، لأن الولايات المتحدة وحلفاءها يعاودون الدخول في الحروب الجارية في العراق وسوريا، في إطار ما سمّوه «إضعاف وتدمير داعش».
بعد قيام «داعش» بغزوة الموصل واحتلالها أجزاء واسعة من العراق، لم نلحظ لوماً يلقى على كاهل الجيش الأميركي وإدارته في عدم نجاح هذه الإدارة في العراق، حيث ينظر إلى الفشل هناك على أنه فشل عراقي داخلي في إدارة البلاد، أو على الأقل، هكذا حاولت الإدارة الأميركية اختزال المشهد.
لكن الحقيقة هي أنه فشل مزدوج تتحمل فيه الإدارة الأميركية (سياسة وعسكراً) مسؤولية كبرى، فيما تتحمل فيه الحكومات العراقية المتعاقبة مسؤولية الاستمرار في السياسات المغلوطة التي بدأها المحتل الأميركي.
لقد تمظهر هذا الفشل في العراق منتصف العام الفائت بعد أحداث الموصل. فقد أنشأت الولايات المتحدة الجيش العراقي ودربته بكلفة كبيرة، ولكنه تقهقر على يد قوة أصغر وأقل تسليحاً بكثير. لم يكن الإنجاز الذي حققه «داعش» انتصاراً بالمعنى العسكري، بقدر ما كان فشلاً ذريعاً للمنظومة التي حكمت العراق منذ عهد «الحاكم المدني» الأميركي بول بريمر برغم مليارات الدولارات التي صُرفت على بناء الجيش والشرطة العراقيين، والتي ذهبت بمعظمها إلى جيوب سماسرة السلاح والمتنفذين. ويكفي الاطلاع على ما اعترف به رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، حين أكد أن 50.000 من «الجنود الأشباح» كانوا مجرد أرقام تتحول رواتبهم عن طريق الاحتيال إلى جيوب ضباطهم.
قامت الولايات المتحدة ببناء الجيش والشرطة العراقية من نحو 350.000 جندي وحوالي 650.000 من رجال الشرطة، بتكلفة بلغت 26 مليار دولار منذ العام 2003، وفقاً لتقرير صدر عن المحقق الأميركي الخاص في شؤون إعادة إعمار العراق. فكيف تم إنفاق 9.4 مليار دولار على تدريب الشرطة العراقية وتوظيفها وتزويدها، برغم أن هذه القوة معروفة بفسادها وعدم كفاءتها، بينما ذهبت 3.4 مليار دولار أخرى في إطار تزويد الجيش العراقي بالدبابات والطائرات والقوارب وناقلات الجند المدرعة ومعدات أخرى، استولت «داعش» على الكثير منها في وقت لاحق؟
بعد أحداث الموصل بدأت الإدارة الأميركية بإرسال آلاف الجنود الأميركيين إلى العراق لتدريب الجيش العراقي من جديد. حدث ذلك من دون أن يسأل أحد عما حصل بين العامين 2003 و2014. لماذا وكيف يتمكن «داعش» من القتال بفعالية بمجموعات لم تتلقَ تدريباً طويلاً في حين أن الجيش العراقي لا يستطيع!
بعد أكثر من 10 أعوام من الحرب في العراق وسوريا وأفغانستان، تمكن «الارهابيون»، من تطوير المزيج الأكثر فعالية من التكتيكات العسكرية وأساليب الهجوم التي تناسب الظروف المحلية، في الوقت الذي اعتمدت فيه الجيوش الغربية على استعراض تكنولوجياتها الحربية طمعاً بإبرام صفقات الأسلحة التي لا تتناسب مع نوعية هذه الحروب، فضلا عن الدعاية الإعلامية لهذه الأسلحة التي تحفز شهية حلفائها لامتلاك طائرات الهليكوبتر والدبابات والمدفعية الباهظة الثمن، والتي لا تحقق الا نجاحاً محدوداً جداً في الظروف العراقية والسورية.
في المقابل، ارتزكت «داعش» في عملياتها العسكرية على التفجيرات الانتحارية واستخدام القناصة وفرق الهاون بشكل أساسي، إضافة إلى اختراقات امنية عبر شراء الضباط والشخصيات المركزية الذين فتحوا لها الطريق لاحتلال بعض المناطق والمدن. لكن سلاحها الأكثر فعالية كان الدعاية الإرهابية التي تروجها من خلال نشر جرائمها عبر شبكة الإنترنت وتجنيد العناصر، برغم كل التطور التكنولوجي الغربي الذي يسمح للغرب بمراقبة وعدّ أنفاس من يستعمل الانترنت، ما يطرح علامة استفهام كبرى على أداء الغرب وجديته في محاربة الإرهاب على الشبكة العنكبوتية. وبرغم الخسائر التي تعاني منها «داعش»، إلا انها ما تزال في وضع يمكنها من تجنيد المقاتلين من السكان الموجودين في مناطق تحت سيطرتها، أو من بلاد بعيدة عنها.
محمد محمود مرتضى
جريدة السفير اللبنانية
http://assafir.com/Article/18/394831