في ذكرى “النكسة”: مسؤولية النظام السوري عن الهزيمة

في ذكرى “النكسة”: مسؤولية النظام السوري عن الهزيمة

2717588699

مضى ما يقارب النصف قرن على هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، لم يتقدم العرب خلاله إلى الحدّ الذي يستطيعون فيه قلب المعادلة من هزيمةٍ إلى نصر، أو على الأقل “إزالة آثار العدوان”. وبما أنّهم لم يتقدموا نحو النصر أو نحو إزالة آثار العدوان فنحن لا نزال في قرار الهزيمة، نتصرف بسلوك المهزومين ونفكّر على طريقتهم، إلى أن أتتنا بالحلم رياح التغيير محمولةً على أكفّ ثورات “الربيع العربي”، ما لبثت جحافل الثورة المضادة أن بادرت بهجومٍ معاكس، تحاول ما استطاعت كسر قوة هذه الاندفاعة الحلم، لتعيدنا إلى زمن المهزومين. ويتحمّل نظام بشار الأسد الوزر الأكبر في هذه الردة، وكان له الدور الأعظم في تراجع حلم الربيع العربي بتحويله سورية إلى بحيرة دم، بينما ساهم أبوه قبل نصف قرن بصناعة هزيمة الخامس من حزيران.

ويدلّنا كلّ الشواهد والوقائع التاريخية على أنّ مسؤولية هزيمة الخامس من حزيران تعود إلى قادة انقلاب 8 آذار/ مارس 1963 في سورية، أو ما يُعرف بـ “اللجنة العسكرية” التي استغلت التشققات العميقة في الاجتماع السوري التي حدثت عقب “فصل” سورية عن مصر في انقلاب 28 أيلول/ سبتمبر 1961، فأدّى ذلك إلى خلافٍ عميق في الاجتماع السياسي في البلد تجاه الموقف من الوضع الجديد الذي أصبحت فيه سورية “مستقلة” عن الجمهورية العربية المتحدة، وعادت فيه إلى اسمها القديم “الجمهورية السورية”. وكان هذا الحدث الكبير مفاجئًا لجميع السوريين، والكلّ يعرف الأخطاء الكبيرة لنظام الوحدة، وتجربة الجمهورية العربية المتحدة لا سيما في مجال التضييق على الحريات وازدياد دور البوليس السري، والقرارات الاقتصادية المتسرعة، وتراجع الوضع المعيشي. لكنّهم انقسموا إلى فريقين. وشعر أغلب السوريين بالحسرة على خسران تجربة وحلمٍ كبيرين على الرغم ممّا شاب إدارة الدولة من شوائب، ففرّق هؤلاء بين إدارة النظام السيئة التي يجب تغييرها والكيان السياسي للدولة التي من المفترض أن تكون خارج الجدل والخلاف. فرفع هؤلاء شعار “استرجاع الوحدة” التي رأوا فيها مع التقدّم والحداثة ضمانةً للمستقبل وقوة لمواجهة المخاطر الوجودية التي فرضتها “إسرائيل”. بينما رأت فيها القلة خلاصًا من كابوس الاستبداد ورفعت شعار الدفاع عن الكيان السوري. وانحاز لهذا الخيار الفئات الميسورة في المدينة والريف، وأحزاب الطبقة الوسطى الليبرالية، وجماعة الحوراني، والشيوعيون، وأغلب الأقليات التي وقفت حذرة من الوحدة منذ قيامها خشية طغيان الأكثرية. وتحوّل الحذر لديها إلى خوف مع هيمنة الطابع الاستبدادي للحكم، لا سيما أنّ عبد الناصر اختار رجل المخابرات عبد الحميد السراج ليكون حاكمًا على سورية، وأبعد جميع القادة السياسيين للمرحلة البرلمانية الليبرالية الذين قدّموا له سورية على طبق من ذهب دون شروط ومواثيق.

لقد عبّر عن هذه النزعة الأقلّوية ما سمّي بـ “اللجنة العسكرية” التي تشكَّلت من ضباطٍ بعثيين سابقين من الأقليات لم تكن راضية عن قيام الوحدة، فحملت في أعماقها خصومة شديدة لرئيسها عبد الناصر، ولقيادة حزب البعث لتأييدها قيام الوحدة، لكنّها لم تشكّل قوةً تُذكر في الميدانين الاجتماعي والسياسي داخل هذا الانقسام الاجتماعي الكبير بين كتلتي “الوحدويين” و”الانفصاليين”.

عملت اللجنة العسكرية على استغلال تلك الخلافات في الاجتماع السوري. واستخدمت قادة البعث واجهةً سياسية وأيديولوجية في بداية حكمها، إلى أن اطمأنت لقدرة الأجهزة المخابراتية التي شيدتها لحماية استئثارها بالحكم؛ فتخلصت من تلك القيادة عام 1966. واستغلت غفلة الناصريين وافتقارهم إلى التنظيم في انقلابها على الحكم تحت شعار استعادة الوحدة، فعوّضت عن العزلة الجماهيرية والتنظيمية التي تعانيها بالتنظيم المتماسك والسرية، والاستعانة بالروابط ما قبل الوطنية/ الطائفية، لاقتلاع جزء من المجتمع/ طائفة من تناثرها الاجتماعي لتضع شبابها في مؤسسات السلطة القمعية: الجيش، والشرطة والمخابرات، وتتولى وظيفة “القمع والضبط والتقييد” في المجتمع، وتتحول إلى أداة مراقبة وعقاب.

لقد عملت “اللجنة العسكرية” على وضع إستراتيجية انقلابية تستبق فيها تحرّك الناصريين العسكري؛ فقامت بانقلابها وأجبرت الناصريين على مساندتها من موقع الصف الثاني في 8 آذار/ مارس 1963. ومهّد هذا الانقلاب الاستباقي لانفراد “اللجنة العسكرية” البعثية بالسلطة وتحكّمها فيها، عبر تصفية شركائها وإزاحتهم. وقدّمت خطابًا قوميًا يسراويًا، حاولت عن طريقه أن تضع الشعب السوري تحت المراقبة الدائمة في الداخل، وتنافس به عبد الناصر عربيًا؛ ففي مواجهة إستراتيجية عبد الناصر المُعلنة والقائمة على فكرة أنّ الوحدة العربية والتقدم العربي هما الـ “طريق لتحرير فلسطين”، قلبت الشعار ليصبح: “تحرير فلسطين طريق الوحدة”، فحوّلت القضية الفلسطينية، منذ ذلك الحين، إلى سلعة في سوق السياسة الرديئة. ويعلّق ياسين الحافظ بقوله: “استُخدمت قضية فلسطين، وبالتحديد اتُّخذ وجود البوليس الدولي في شرم الشيخ، الذي وضع بقرار من هيئة الأمم المتحدة إثر العدوان الثلاثي على مصر، مادة لتعيير عبد الناصر باعتبار أنه تخلى عن تحرير فلسطين”[1].

وصلت مزايدات النظام السوري إلى حد أنّ رئيسه فاجأ الجميع بأنّه يملك خطة لتحرير فلسطين خلال ثلاثة أيام، وذلك في مؤتمر القمة العربية المنعقد في كانون الأول/ ديسمبر 1964، لمناقشة تهديدات إسرائيل بتحويل مياه نهر الأردن. هذه الادعاءات التي تفتقر إلى الجدية لم يكن لها من هدف سوى إحراج مصر وركوب الديماغوجية الثورية الزائفة، على طريقة النظام في إقامة الجبهات الزائفة كـ “جبهة الصمود والتصدي” و”جبهة المقاومة”.

وعقب تخلّصه من القادة المؤسسين للبعث، وحكمه بالإعدام على ميشيل عفلق، شرع النظام حثيثًا في توجيه الأنظار إلى “الجبهة” بدلًا من الانشغال بترتيب البيت العربي، والبحث في خيارات الوحدة مع مصر واستحقاقات الداخل. لقد ادّعى النظام أنّ إستراتيجية تحرير فلسطين هي في أمر اليوم. واستخدم حماسة “حركة فتح” الناشئة للقيام ببعض العمليات “الفدائية” عبر الحدود، “لتحرير” الجمهور من هيمنة الخطاب الناصري وتثوير الأنظمة ودفعها إلى المعركة. وشنّ النظام (اللجنة العسكرية) حملة مركّزة على عبد الناصر وعلى موقفه تجاه القضية الفلسطينية، لابتزاز السياسة الناصرية ولاستخدامها في معركته ضد الشعب السوري في الداخل. وشرع قادة النظام في رسم الخطابات الكلامية (الكلام لوجيا) لإثارة الرأي العام بهدف منافسة قيادة عبد الناصر ونكاية فيه؛ فقد كانوا عمليًا يفرشون الأرض أمام “إسرائيل” لتذوق طعم نصر باهر من دون تكلفة؛ إذ أتاحت هذه “العراضة”، على الحدود، فرصة لإسرائيل لتنفيذ مخططاتها الجاهزة في التوسّع.

والغريب في الأمر أنّ عبد الناصر وجد نفسه مساقًا إلى المعمعة التي مهّد لها النظام، وهو الذي صرّح أكثر من مرة أنّه ليس لديه خطة حالية لتحرير فلسطين، وأنّ هزيمة إسرائيل ليست ممكنة إلَّا بعد تحقيق الوحدة العربية مع تفوّق عسكري عربي واضح تسنده تنمية فعَّالة. بدا عبد الناصر وكأنّه لم يستطع مقاومة اتهاماته بالتقصير والعمالة، في وقت نبّهه الاتحاد السوفياتي أنّ سورية في خطر من حشود إسرائيلية، فانساق الرجل إلى الفخ بتأثير الضغط النفسي الذي تركته اتهامات النظام السوري له، وأمام تأكيدات قوية من الحكومتين السوفياتية والسورية في 1967 عن حشود إسرائيلية كثيفة على الحدود السورية تبيَّن فيما بعد أنّها غير صحيحة.

وهكذا انزلق عبد الناصر نحو معركة غير محسوبة نتائجها، بإعلانه عن حالة حرب مع إسرائيل وإغلاق مضايق تيران وسحب قوات الطوارئ الدولية. وهو ما عدّته أميركا وإسرائيل كافيًا لتبرير عدوان 5 حزيران/ يونيو. وانزلق الملك حسين أيضًا بإعلانه الوقوف مع مصر وسورية، تحت ضغط الخوف من الاتهام بالخيانة. لقد دفع النظام بالعرب جميعًا إلى هاويةٍ مازالوا يدفعون تكلفتها إلى اليوم. لقد قادت توجهاته وسلوكه السياسي الذي اختلطت فيه روح المنافسة بانعدام الشعور بالمسؤولية، وحب السلطة، بطريقة دراماتيكية إلى الهزيمة القومية الكبرى في 5 حزيران/ يونيو.

هزّ زلزال هزيمة حزيران الاجتماع السياسي العربي من محيطه إلى خليجه. وأجبر الجميع على تفحّص المشهد العربي المجلّل بالعار. لكن النظام السوري فاجأ الجميع بادعائه “النصر” على مخططات إسرائيل والإمبريالية لأنّه أفشل نجاح هدف العدوان، وهو “إسقاط نظامه التقدمي”. وبدلًا من أن يتحمل وزير الدفاع (حافظ الأسد) المسؤولية عن الهزيمة النكراء التي سبّبها لسورية وللعرب، ارتقى في سلّم السلطة ليصبح عام 1970 الرئيس القائد، وأطلق بعدها على نفسه اسم “بطل الجولان”.

والمعلوم أنّ وزير الدفاع حافظ الأسد أذاع نبأ سقوط القنيطرة بيد القوات الإسرائيلية بينما كان وزير الصحة السوري يتجوّل في المدينة، ولم يكن قد دخلها أيّ جندي إسرائيلي. بل إنّ موشي ديان وزير الحرب الإسرائيلي صرّح فيما بعد، أنّه لم “يكن أيّ جندي إسرائيلي، في تلك الساعة على مشارف المدينة”. لقد علّق حنّا بطاطو على سلوك قيادة النظام حينها بالقول: “من المحتمل أنّ الأسد و(صلاح) جديد اختارا التضحية بأرض سورية وبمصالح الجيش من أجل المحافظة على نظامهما. وما عزز ذلك الشك أنّ وحدات الجيش الضاربة -خصوصًا اللواء 70 المدرع بقيادة العقيد عزت جديد، وكتيبة الدبابات بقيادة النقيب رفعت الأسد – كانت أوّل من ترك الجبهة تحت جنح الظلام”[2].

كانت التكلفة عظيمة؛ لقد خسر العرب بقية فلسطين وجزءًا من مصر وسورية والأردن، وخسروا معها صورتهم الإيجابية التي جنوها بعد الاستقلال نتيجة تقدّمهم المحسوس: تأميم قناة السويس، وصد العدوان الثلاثي، وتكريس عبد الناصر زعامته للعرب، بعد أن كان وقف في مؤتمر باندونغ إلى جانب القادة العظام في التاريخ الحديث (نهرو، وتيتو، وشوان لاي). لقد كانت صورة باهرة، أكملها المثقفون والمفكرون العرب بجهد ثقافي عربي كبير على امتداد أكثر من قرن، قدّموا من خلال كتاباتهم صورة زاهية عن العرب، تكسَّرت بفضلها صورتهم السلبية التي نمَّطها الاستشراق القديم والأدب الكنسي؛ فظهرت في المكتبة الغربية والشرقية مواقف إيجابية تجاه العرب، ويكفي ذكر استشراف توينبي مستقبل العرب، وجاك بيرك، ورودنسون، وأندريه ميكيل، وسومبارت. بل قدَّم برنارد لويس أهم كتاب عن تاريخ العرب، فتكوّنت في متن الثقافة الغربية صورة إيجابية عن العرب: أمةً وثقافة وتاريخًا ورهاناتٍ مستقبلية. انهار هذا كلّه بعد هزيمة حزيران. وغدَا المفكر العربي في حالة دفاع عن النفس أمام انهيار سمعته وصورته وانهارت في المجال العربي الحداثة نفسها، حين أصبح الفكر التنويري والتحديثي في حالة تقهقر، لحساب الإجابات القديمة عن أسئلة الحاضر الصعبة. وخرج علينا التطرف من كلّ صوب. وابتعدنا عن تلك النظرة النهضوية – الإصلاحية الواثقة والمتصالحة مع الذات والعالم، لنضع مكانها نظرة متشائمة سوداوية وعدائية تجاهه. وغدا بعضنا يقتل نفسه من أجل قتل الآخرين.

وعلى الرغم من التحولات المذهلة في العالم، على كلّ الأصعدة، وفي مقدمتها الديمقراطية وفكرة تنمية تقوم على الإنسان ومن أجله، بقي النظام محافظًا على نهجه الثابت في إنكار الوقائع، والارتفاع عنها بخياله المحلّق، فلم يفارق “بطل الجولان” الدنيا دون أن يزرع في البلد بذور الخراب والدمار. وحرص على أن يهديها وريثًا، رفع شعارًا مدوّيًا في مواجهة المتظاهرين السوريين: “الأسد أو نحرق البلد”. ونفّذ الشعار من دون تردد؛ فقد دمّر البلد وقتل مئات الألوف من سكانه، واستخدم القتل لدفع الناس إلى النزوح وراء الحدود، واستقدم إيران والميليشيات الإرهابية التابعة لها من شتى الأجناس، وتوَّج “إنجازاته العظيمة” باستقدام الروس لتبدأ طائراتهم في حربها لإبادة السوريين دون رادع. أمّا ابن “بطل الجولان” فمازال يحافظ على ابتسامةٍ لا تفارقه، يُثير بها إعجاب الكثير من الساسة الغربيين.


[1] ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجية المهزومة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الأعمال الكاملة، 2005)، ص 697.

[2] حنا بطاطو، فلاحو سوريا، أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، عبد الله فاضل ورائد النقشبندي (مترجمان)، ثائر ديب (مراجع)، (الدوحة /بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص377

 

شمس الدين الكيلاني

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

Save