لكن التراجعات الأخيرة للتنظيم، والضربات التي تلقاها في سورية والعراق، والأراضي التي خسرها لمصلحة خصومه في معارك عديدة، أعلت أصوات المبشّرين بزوال هذه الظاهرة المسماة “الدولة الإسلامية”، وعزّزت التحليلات القائلة إن هذا التنظيم فقاعة، تمدّد في غفلةٍ من الفاعلين الأساسيين، وفي حالة ضعفٍ لسلطة الدولة في المشرق العربي، وهو يعود إلى حجمه الطبيعي، تنظيماً هامشياً يُقاتل خوفاً من الفناء، لا طمعاً في التمدّد، غير أن هذا التحليل المتفائل، والمزهو بهزائم التنظيم الأخيرة، يحتاج فحصاً ونقاشاً.
إذا كان تنظيم داعش في طريقه إلى الزوال، فإن هذا يُفَسَّر بفقدانه كثيراً من أسباب وجوده. وبمعنى آخر، فإن تغييراً ما يتم في البيئة الإقليمية تجعل هذا التنظيم في وضع الدفاع عن وجوده بعد تمدّده الكبير. لابد، هنا، من مراجعة أسباب وجود التنظيم، والعوامل التي أسهمت في تعزيز حضوره، بالشكل الذي رأيناه، وهي عوامل يختلط فيها السياق السياسي بالدافع الأيديولوجي والاستنفار على أساس الهوية المذهبية، ويقوم الظرف السياسي والاجتماعي في زمن الحروب الأهلية بتذخير التنظيم بالعدة اللازمة لإقناع مجموعاتٍ من الناس بخياره ونهجه.
عاش تنظيم داعش، بالأساس، على اضطراب البيئة الإقليمية، بدءاً من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وانهيار الدولة فيه، وقيام نظام الطوائف الذي يتناسب مع الطرح الطائفي للتنظيم، وصولاً إلى الثورة في سورية، وما تلاها من احترابٍ أهلي، ساعد في ولادةٍ جديدة للتنظيم، من خلال تدفق المال والسلاح والعنصر البشري الجهادي، من كل أنحاء العالم، لعبور الحدود التركية السورية.
يتعلق انتعاش التنظيم في هذه المحطات بأمرين تلازما في إحداث حالة حربٍ كبيرة في المنطقة العربية: الأول انهيار الدولة في المشرق العربي، والاحتراب الأهلي الناتج عنه، وغياب أي طرح وطنيٍّ عابر للجماعات الأهلية، لمصلحة الطروحات الطائفية، وخصوصاً في العراق، حيث تم تركيب نظامٍ طائفي يفشل في كل شيء تقريباً، بما في ذلك ادّعاء تمثيل حالةٍ وطنيةٍ عراقية. أما الأمر الآخر، فهو التدخلات الخارجية، منذ احتلال أميركا العراق، والتي عزّزت، من جهةٍ، تآكل الدولة لصالح صراعات الهوية في المشرق، وجعلت، من جهةٍ أخرى، التناقضات الإقليمية والدولية في أعلى مستوياتها، بما يبرّر تقاطع بعض الأطراف مع الحركات الجهادية، لاستخدام ذلك في مواجهة الأطراف الأخرى، وقد أفاد تنظيم داعش من صراعات الهوية ومنطق الاحتراب في إثبات وجوده، وهو ينتعش في الحروب والأزمات، كما أفاد من التناقضات الإقليمية والدولية في التضخم والتمدد.
ما حصل أن محاولةً جرت لتركيز الجهود ضد التنظيم، وأن التناقضات الإقليمية والدولية خفّت كثيراً لمصلحة أولوية الخلاص من هذا التنظيم، وقد ساهمت الحملات العسكرية المركّزة من عدة أطرافٍ في إلحاق هزائم عديدة بداعش. لكن، من المبالغة القول إن هذا التنظيم يزول، لأن العوامل المعزّزة لوجوده لم تعالج بعد، فلا مشروع لإعادة بناء شرعية الدولة العربية يلوح في الأفق، ولا اللغة الطائفية تتراجع، والحروب والانقسامات الأهلية التي يعتاش عليها التنظيم لم تتوقف، والتسويات الكبرى إقليمياً ودولياً لم تتم بعد.
ماذا لو حصل هذا كله؟ هل يزول تنظيم داعش؟ قد يتحوّل تنظيم داعش إلى تنظيمٍ هامشيٍّ يعتاش على التفجيرات، في حال الوصول إلى تسوياتٍ سياسيةٍ كبرى في المنطقة، وإعادة بناء الدولة في المشرق على أسسٍ جديدة، والعمل يجب أن يتم لتحقيق تهميش هذا النوع من الحركات الجهادية، وهذا يشمل أيضاً التنظيمات الشبيهة بداعش، والتي تتم محاولة تلميعها لأغراض استخدامها في الصراع الإقليمي، فيما هي تختلف عن داعش في الدرجة، لا في النوع، مع التسليم بأن تنظيم داعش توسّع أكثر من أقرانه في مسألة التكفير التي شمل بها رفاقه في الحركات الجهادية نفسها.
ليست دولة داعش مستقبل منطقتنا، ولا يجب أن تكون، لكن دولة داعش نتاج حالة حربٍ ضخمة، لها أسبابها، وفيها دوافع للاستمرار. وفي حين يعرف جميع الفاعلين أنه لابد من حوارٍ وتسويةٍ، لأن الانتصار الساحق لأي طرفٍ غير ممكن، تظل المحاولات قائمةً من كل طرفٍ إقليمي ودولي، لتحسين وضعه قبل التسوية، لكننا شهدنا أثر انخفاض مستوى التناقضات بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، على وضع تنظيمٍ مثل داعش، وهو تنظيمٌ حاول تسويق صورته المنتصرة دائماً، فإذا بالصورة تهتزّ تحت وطأة انكساراته الأخيرة.
تغيير السياق السياسي والعوامل المنتجة ظاهرةً مثل داعش مفتاحٌ لهزيمة التنظيم وتهميشه، لكن زواله وأمثاله مستبعد، فهناك عوامل سياسية وأيديولوجية تعيد إنتاج هذه الحركات، لكن المهم أن تبقى في الهامش.