الفساد والطائفية يفجران اقتصاد لبنان قبل مجزرة مرفأ بيروت وبعدها

الفساد والطائفية يفجران اقتصاد لبنان قبل مجزرة مرفأ بيروت وبعدها

عندما يعيد داني شكور افتتاح مطاعمه الأربعة بعد إصلاح الأضرار التي سببها الانفجار المدمر، في 4 أغسطس/ آب، في بيروت، يخطط لتسليم 11% وهي ضريبة المبيعات التي يجمعها عن كل معاملة، إلى الجمعيات الخيرية المحلية التي ساعدت في تنظيف المدينة، بدلاً من إعطائها للحكومة.

يقول شكور، لوكالة “بلومبيرغ”، “إنه شكل من أشكال العصيان المدني، حيث لا أعرف كيف سيتم إنفاق الأموال التي أقدمها للحكومة. ماذا فعلت الدولة لنا؟ لا تستطيع الدولة حتى تزويدنا بالكهرباء”.

كان لبنان ينهار بالفعل قبل انفجار كميات “نيترات الأمونيوم” التي تزن 2750 طنًا في مرفأ بيروت، مما أسفر عن مقتل 171 شخصًا على الأقل وإصابة الآلاف. وبعدما تبين أنّ الانفجار لم يكن هجوماً إرهابياً ولا بداية حرب جديدة مع إسرائيل، بل كان ذروة عقود من الفساد وسوء الإدارة، حينها انفجرت الشوارع بغضب.

ودفعت الاحتجاجات حكومة رئيس الوزراء حسان دياب التي كانت تبلغ من العمر 7 أشهر، للاستقالة.

مسكونة بحرب أهلية استمرت 15 عامًا وانتهت في عام 1990 وتركت العديد من المظالم دون حل، فإن الدولة الصغيرة التي تمتد عبر خطوط الصدع السياسية والطائفية في المنطقة، تعالج أزمة هوية لم تكن أبدًا بعيدة عن السطح.

بموجب ترتيب معقد لتقاسم السلطة ساعد في تحقيق السلام بين الفصائل المتحاربة، يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحياً مارونياً ورئيس الوزراء مسلماً سنياً ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً. هذا النظام ولّد شللًا مزمنًا، في حين أن القادة الطائفيين أقاموا إقطاعيات فعالة، ولعبوا على مخاوف الأقليات التي لا تعد ولا تحصى، واستخدموا مواقعهم الرسمية لتوجيه الموارد نحو ناخبيهم مقابل الأصوات والولاء.

ومما يزيد الوضع تعقيدًا “حزب الله” المدعوم من إيران، والذي تحول إلى قوة سياسية ويتهمه منتقدوه بإدارة دولة داخل دولة، حيث يقاوم اقتراحات بالتخلي عن ترسانة عسكرية يعتقد أنها أكثر تقدماً من الجيش.

وسط كل الخلل السياسي، يمكن لسكان لبنان البالغ عددهم 6.8 ملايين نسمة الاعتماد على الأقل على ثابتين: نظام مصرفي سليم نسبيًا وربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي. بدأ كلاهما في التفكك، العام الماضي، حيث غرقت البلاد في أزمة مالية أدت إلى انهيار العملة، مما دفع البنك المركزي إلى تقييد الوصول إلى الودائع بالدولار.

تولّى دياب، وهو أكاديمي، منصبه،في يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد أن شكّل حكومة مؤلفة بشكل أساسي من تكنوقراطيين وصفوا بأنهم قادرون على تجنب انهيار اقتصادي شامل، لكنهم عملياً كانوا تابعين إلى الأحزاب السياسية ذاتها التي تعاقبت على الحكومات السابقة.

بدأ البنك المركزي اللبناني بطباعة النقود مما تسبب في انخفاض قيمة العملة بشكل أكبر وإشعال التضخم الذي اقترب من 90% سنويًا في يونيو”

وعادة لبنان في تمويل عجز ميزانيته الدائمة من خلال الاقتراض، جعله ثالث أكثر الدول مديونية بعد اليابان واليونان، حيث بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 178% بنهاية عام 2019.

وتخلّفت حكومة دياب عن سداد سندات بقيمة 30 مليار دولار، في مارس/ آذار، ثم تحولت إلى صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على حزمة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار.

لم تتقدم المفاوضات مع الصندوق أبدًا لأن المصرفيين والسياسيين والمصالح الخاصة الأخرى أعاقت الخطة التي كانت ستجبرهم على دفع ثمن الكارثة الاقتصادية للبلاد.

مع وصول المحادثات إلى طريق مسدود وإغلاق أسواق الدين الدولية، بدأ البنك المركزي اللبناني بطباعة النقود، مما تسبب في انخفاض قيمة العملة بشكل أكبر وإشعال التضخم، الذي اقترب من 90% سنويًا، في يونيو/ حزيران. ويقول ناصر السعيدي وزير الاقتصاد الأسبق، لـ “بلومبيرغ”: “نحن نسير على طريق فنزويلا”.لا شك أنّ الأسعار في الدولة التي تعتمد على الاستيراد، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية الأساسية، والتي ارتفعت بنسبة 250% في الأشهر الاثني عشر حتى يونيو/ حزيران، تتجه نحو الأعلى نتيجة للانفجار الذي دمّر صومعة الحبوب الرئيسية في البلاد والبنية التحتية الأخرى الحيوية للتجارة. ويقدر السعيدي أن واردات البلاد ستنخفض بأكثر من 70% هذا العام.

وقال الرئيس اللبناني ميشال عون، في 12 أغسطس/ آب، إنّ الأضرار الناجمة عن الكارثة تجاوزت 15 مليار دولار، وهو رقم يزيد عن 28% من الناتج المحلي الإجمالي المسجل العام الماضي.

في تقرير، في 9 أغسطس/ آب، كتب غاربيس إراديان، كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي، أنه يتوقع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 24% هذا العام.

لا شك أن الأسعار في الدولة التي تعتمد على الاستيراد، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية الأساسية، تتجه نحو الأعلى نتيجة للانفجار

وجذب مؤتمر افتراضي للمانحين استضافه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 9 أغسطس / آب، تعهدات بنحو 300 مليون دولار ، وهي جزء بسيط من المليارات التي ستكلفها إعادة بناء مرفأ بيروت والمدينة.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها القوى العالمية إرساء حبل نجاة للبلاد. في عام 2018، جمع اجتماع في باريس تعهدات بقيمة 11 مليار دولار. لكن المانحين اشترطوا الإفراج عن الأموال بإصلاحات مهمة، مثل إصلاح قطاع الكهرباء لوضع حد لانقطاع التيار الكهربائي المنهك اقتصاديًا الذي يجبر سكان بيروت على البقاء لمدة 20 ساعة دون كهرباء.

وعلى رأس قائمة الأولويات أيضًا: تقليص حجم القطاع العام المتضخم بسبب عقود من السيطرة السياسية عليه. لكن السياسيين تجاهلوا هذه الدعوات، واستمروا في الخلاف على كل شيء من الوظائف إلى محطات الطاقة في منطقتهم أو لطائفتهم الدينية.

كانت الدلائل تشير إلى أن لبنان قد أصبح دولة فاشلة في كل شيء. تسيطر القمامة على الشوارع بينما يتشاجر المسؤولون حول المنطقة التي يجب إلقاؤها فيها. تضيء مصابيح الشوارع نهارًا وتتوقف في الليل، وتعمل إشارات المرور بشكل متقطع فقط، مما يجعل سائقي السيارات يجربون حظهم في الشوارع التي تسيطر عليها الحفر بشكل متزايد.

باختصار، تخلّت الحكومة عن وظيفتها الأساسية، وهي حماية المواطنين من الأذى، سواء من الأدوية منتهية الصلاحية أو المبيدات الحشرية السامة، أو كما في فضيحة لحم الدجاج الفاسد أخيراً.

يقول نافذ زوق، كبير المحللين الاستراتيجيين للأسواق الناشئة في “أكسفورد إيكونوميكس” وهو مواطن لبناني: “المصالح الخاصة راسخة لدرجة أننا نحتاج إلى تطهير شامل، لكن هذا سيستغرق وقتًا ليس لدينا. هل هذه واحدة من تلك اللحظات المحورية في تاريخ الأمة حيث يصبح ما لم يكن ممكنًا من قبل فجأة ممكنًا؟ أنا متفائل بحذر ، لأنني إذا كنت أتعامل مع دولة فاسدة حيث أحتاج إلى دفع رشوة، فيمكنني التعايش معها، لكن إذا كنت أتعامل مع الفساد الذي يقتل أطفالي ويدمر منزلي ويسرق مني رزقي، فهذا شيء آخر”.

كان إحباط السكان واضحًا في استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما قام بجولة في بعض المناطق الأكثر تضررًا في بيروت في أعقاب الانفجار. حتى أن البعض وضع عريضة يدعو فيها الفرنسيين للعودة لإدارة البلاد كما فعلوا من عام 1923 إلى عام 1943 خلال فترة الانتداب.

الطبقة السائدة “يجب إزالتها. عليهم الاستقالة والمغادرة”. يقول السعيدي، وزير الاقتصاد الأسبق، “إذا لم يذهبوا، فسوف نشهد عنفًا متزايدًا في الشارع”. للقيام بذلك، نحتاج إلى ضغط دولي مستمر من قبل ماكرون، ومن الآخرين، وإذا لزم الأمر، عقوبات دولية على المستوى الشخصي تضرب هؤلاء الأشخاص حيث يؤلمهم”.

خلال زيارته إلى لبنان، أرسل ماكرون رسائل شديدة اللهجة إلى القادة السياسيين، مطالباً إياهم بالتوصل إلى عقد اجتماعي جديد وإجراء تغييرات محددة من شأنها تحرير مليارات الدولارات من المانحين الدوليين.

في غضون ذلك، ولضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها – بدلاً من تكديسها في جيوب السياسيين وأعوانهم – قالت فرنسا والدول المانحة الأخرى إنها ستوجه المساعدة الإنسانية من خلال الجمعيات الخيرية الخاصة ووكالات المعونة الدولية.

لا يزال السياسيون على مواقعهم، يتشاجرون على حصصهم في الحكومة المقبلة، يتحكمون بالقضاء ويريدون فرض قضاة وفقاً للتبعية الطائفية للتحقيق بالانفجار

إلا أن ما يحصل في التحقيقات التي لحقت انفجار بيروت، وفق متابعات “العربي الجديد” لا يشي بأي شعور بالمسؤولية لدى الأحزاب الأساسية في البلاد. لا يزال السياسيون على مواقعهم، يتشاجرون على حصصهم في الحكومة المقبلة، يتحكّمون بالقضاء ويريدون فرض قضاة وفقاً للتبعية الطائفية للتحقيق بالانفجار، إضافة إلى فرضهم حالة الطوارئ، اليوم الخميس، بعد مضي 10 أيام على الانفجار، بما يؤدي إلى قمع أي تحركات قد تطاول السلطة، وبما يوسع صلاحيات الجيش اللبناني ويزيد من سطوة المحكمة العسكرية في محاكمة المدنيين، على موقف على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بسبب المشاركة في احتجاج، أو لأسباب مختلفة أخرى.

مقارنة السعيدي بفنزويلا ملائمة، كانت المعارضة المنقسمة عاجزة عن الإطاحة بالحكومة التي دفعت اقتصاد الدولة الغنية بالبترول إلى الأرض. في لبنان، ما يزال على قوى المعارضة أن تتصور بديلاً قابلاً للتطبيق لنظام الكوتا الطائفية.

تقول منى فواز، الناشطة وأستاذة التخطيط الحضري في الجامعة الأميركية في بيروت: “القضية هي أننا لم نحقق مصالحة ما بعد الحرب. لم تكن هناك مساءلة لأمراء الحرب الذين يحكموننا الآن ويديرون هذا النظام. لذلك ما زلنا نعيش في تلك الحقبة مع أمراء الحرب وأعوانهم الذين قادونا إلى هذه الأزمة المالية أو إلى حروب إقليمية”.

يميل الكثيرون الآن إلى الانضمام إلى موجات الهجرة التي يعود تاريخها إلى أكثر من 160 عامًا، والتي أدت إلى انتشار اللبنانيين في كل أنحاء الكرة الأرضية. بدلاً من التوجه إلى الخليج مثلاً من أجل العمل وبناء بعض المدخرات، ثم العودة إلى وطنهم، يفكر الكثيرون الآن في المضي قدمًا بهذا الخيار إلى الأبد.

العربي الجديد