رسمياً، يوجد للقوات الأميركية نحو 14.187 جندياً منتشرين في أفغانستان والعراق وسورية -9.800 في أفغانستان؛ و4.087 في العراق؛ و300 تقريباً في سورية. وإذا أضيفت إحصاءات البنتاغون المتعلقة بمختلف موظفي الدعم والقوات الخاصة، فسيصل الرقم إلى حوالي 17.050. وإذا أخذت في الحساب بيانات وزارة الدفاع الأميركية عن المتعاقدين العسكريين، يرتفع الرقم الإجمالي إلى 34.397.
وهكذا، وبشكل غير رسمي، يوجد للولايات المتحدة قوة على الأرض في هذه البلدان أكبر بكثير مما تريد الاعتراف به. ويكمن السبب في أن الولايات المتحدة تتكتم على الأمر في حقيقة أنها تريد خلق الشعور العام فيما يتعلق بنجاحاتها -وإخفاقاتها- في حروبها لما بعد 11/9.
كان هناك عامان خلال الحرب في فيتنام، واللذان كان للولايات المتحدة فيهما عدد من القوات يعادل ما لها في الشرق الأوسط اليوم، هما العامان 1964 و1972. ويوم 27 تموز(يوليو) من العام 1964، تم إرسال نحو 5.000 مستشار عسكري أميركي إلى فيتنام الجنوبية، وهو ما رفع عدد القوات الأميركية في ذلك البلد إلى 21.000.
وفي الأسبوع التالي، وقعت حادثة خليج تونكين. وبموجب الصلاحيات المخولة له استناداً لقرار خليج تونكين، زاد الرئيس الأميركي في حينه، ليندون جونسون، عدد القوات الأميركية التي تقاتل في فيتنام بشكل سريع. وبلغ الرقم أوجاً في العام 1968 حين وصل إلى أكثر من 500.000 جندي.
وكان العام 1968 هو العام نفسه الذي شهد هجوم التيت المضاد -والذي شكل نقطة تحول في انخراط الولايات المتحدة في الحرب. ونتيجة لذلك، لم تتم إعادة انتخاب ليندون جونسون، وتولى نيكسون سدة الرئاسة. وعند توليه الرئاسة في العام 1969، وضع نيكسون موضع التنفيذ استراتيجية عرفت منذئذٍ باسم “الفتنمة”. ووفق هذه الاستراتيجية بدأت الولايات المتحدة في سحب قواتها المقاتلة من البلد.
وفي هذه الاستراتيجية بدأت الولايات المتحدة بسحب قواتها القتالية من البلد. وفي مكانهم عملت واشنطن على تمديد وتجهيز وتدريب قوات فيتنام الجنوبية. وعندما شن الفيتناميون الشماليون في العام 1972 الهجوم الشرقي، الذي نجم عنه إيقاع أعداد كبيرة من الخسائر، لم تتنازل الولايات المتحدة عن استراتيجيتها.
استمر الانسحاب وتُرك جيش جمهورية فيتنام ليتدبر أمره وحده. وأسفر الهجوم الفيتنامي الشمالي التالي في العام 1975 -عندما لم تتبق أي قوات قتالية أميركية- عن انهيار جيش جمهورية فيتنام.
في حين من المهم عدم الإفراط في تأكيد التشابهات مع فيتنام، فإن الولايات المتحدة هي اليوم في وضع مشابه اليوم لما فعلته عند نهاية حرب فيتنام. لكن أفغانستان والعراق هما ميدانان مختلفان جداً عن بعضهما بعضا مثلما هما مختلفان عن فيتنام، ولكل منهما أولويات استراتيحية مختلفة. ولذلك، وبالرغم من حقيقة أن كلا هذين النزاعين هما جزء من انخراط أميركي أكبر في العالم الإسلامي منذ هجمات تنظيم القاعدة في 11/9، فإنه يجب علينا تحليلهما بشكل منفصل.
الحرب في أفغانستان
في أفغانستان، تنخرط الولايات المتحدة في عملية خفض أكبر لعدد القوات. وقد اعترف الرئيس أوباما بأنه لن يكون قادراً على إنهاء الحرب تماماً قبل أن يترك الرئاسة كما كان قد أمل في العام 2008. وفي تشرين الأول (اكتوبر) من العام 2015، قال أوباما إنه أمل في أن يترك 5.500 جندي في البلد عندما يترك الرئاسة في كانون الثاني (يناير) من العام 2017.
ومع ذلك، وبالرغم من التصريحات عن رغبة الاستمرار في خفض القوات، فإن الوضع على الأرض يسوء في أفغانستان ولا يتجه نحو الأفضل.
الآن، يسيطر طالبان على أراضٍ في أفغانستان أكثر من أي وقت آخر منذ إسقاط نظامهم في العام 2001. وكان هجومهم الربيعي السنوي بدأ في نيسان (أبريل)، واغتيل قائدهم الملا منصور في ضربة لطائرة أميركية من دون طيار في أيار (مايو) الماضي، وهو ما خلف شكوكاً في فرص نجاح أي مفاوضات أميركية مع طالبان.
في الأسابيع الأخيرة، ذكرت وكالة “الأسوشيتد برس” أن إدارة أوباما قررت تمديد سلطة القادة الذين يشرفون على القوات المنتشرة في ميادين أفغانستان. وذكرت محطة “م. بي. آر” أن لهذا الأمر الذي أصدره البيت الأبيض معنيين رئيسيين.
الأول هو أن القادة الأميركيين مخولون الآن بالأمر بتوجيه ضربات جوية لدعم الهجمات الرئيسية التي تشنها قوات الأمن الوطنية الأفغانية، شريطة أن يكون للضربات الجوية أثر حاسم. ثانياً، تستطيع القوات الأميركية الآن الانتشار إلى جانب قوات المشاة الأفغانية النظامية (وليس فقط قوات العمليات الافغانية الخاصة) لغاية شن هجمات انتقائية، على الرغم من أن القوات الأميركية لن تنخرط في قتال مباشر مع طالبان.
على السطح، لا يبدو ذلك وكأن قوة عسكرية أميركية على وشك الانسحاب من أفغانستان. لكن الحقيقة تقول إن هناك 9.800 جندي لا يستطيعون إلحاق الهزيمة بطالبان وتهدئة البلد كله. وفي أوج الانتشار، كان للقوات الأميركية 100.000 جندي ولم يستطيعوا إنجاز هذه المهام، ولذلك، فإن من المشكوك فيه أن الولايات المتحدة تتوافر على القوة العسكرية الضرورية لإنجاز هذه الأهداف.
الآن، تنخرط الولايات المتحدة غالباً في تدريب وبناء القوات المحلية للقيام بمهمة القتال. وعليه، فإن التصريح الذي سرب من البيت الأبيض يقصد خلق صورة عن وجود دعم عسكري أميركي للقوات الأمنية الأفغانية من دون الالتزام الفعلي بإقحام المزيد من القوات الأميركية، أو حتى السماح لتلك المنتشرة حالياً بالاشتباك بشكل مستقل مع العدو. أو، بعبارات أخرى: هذه هي فتنمة أفغانستان. ولن تقول الولايات المتحدة هذا بشكل مباشر وستؤجل الاعتراف به طالما كان باستطاعتها ذلك. لكن الوضع في أفغانستان هو في مرحلة حيث يجد أوباما نفسه (كما سيجد الرئيس الأميركي التالي نفسه أو نفسها) وهو يدير هزيمة.
الحرب في العراق
في العراق، وامتداداً في سورية، تبدو الحالة أكثر تعقيداً بكثير، والمقارنة مع العام 1972 أقل قرباً. (أنا أشمل سورية عندما أفكر في العراق، لأن “داعش” الذي يستأثر بالتركيز الرئيسي لأهداف استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حالياً، كان منتجاً أساسياً لحرب العراق الثانية).
كانت الولايات المتحدة سحبت آخر قواتها من العراق في كانون الأول (ديسمبر) 2011. وفي حزيران (يونيو) 2014، أمر الرئيس أوباما حوالي 275 من جنود القوات الخاصة أميركية بالاشتراك في القتال ضد “داعش”. ومع الزيادة التي أعلن عنها مؤخراً في نيسان (أبريل)، فإن العدد سيصل إلى 4.087 في العراق و300 تقريباً في سورية.
في العراق، كانت مهمة الولايات المتحدة إدارة الشيعة والسنة والأكراد بحيث يشاركون جميعاً في إعادة بناء الدولة العراقية. ولقد لعب الفشل في تحقيق ذلك وما نجم عنه من خيبة أمل سنية دوراً رئيسياً في خلق “داعش” وتوسيع سلطته.
قد لا تتوافر الولايات المتحدة من الناحية التقنية على قدرة تدمير “داعش” بنفس صرامة العبارات العسكرية. لكن نشر الموارد الضرورية يعد مستحيلاً من الناحية السياسية. والهدف الأصلي المتمثل في تأسيس ديمقراطية ليبرالية في العراق كحليف للولايات المتحدة عند أكثر الأماكن استراتيجة في الشرق الأوسط لم يكن أبداً ذا جدوى اقتصادية في المقام الأول.
وهنا أيضاً لا تتوافر الولايات المتحدة على المقدرة ولا الإرادة لتهدئة الميليشيات المختلفة وإعادة توحيد البلدت، وإنما تقوم فقط بلعب دور داعم للميليشيات المختلفة والجيوش بينما يتحركون ضد معاقل الدولة “داعش” في أماكن مثل الموصل والفلوجة والرقة.
لعل الاختلاف الرئيسي بين أفغانستان والعراق هو أن طالبان -على الأقل حالياً- لا تنفذ أو تدعي مسؤوليتها عن الهجمات الإرهابية في أوروبا أو الولايات المتحدة. كما لا تصفهم الولايات المتحدة حتى بأنهم تنظيم إرهابي مثل “داعش” الذي يسيطر على مساحات شاسعة في سورية والعراق على حد سواء. ولم تغير حادثة إطلاق النار الأخيرة في أورلاندو السياسة الخارجية الأميركية وحدها. أما إذا استطاع “داعش” أو طرف متعاطف معه شن هجوم إرهابي بمستوى 9/11 ضد هدف أميركي، فسيترتب على الولايات المتحدة عند ذلك تقرير ما الذي ستفعله بالقوات التي نشرتها أصلاً في مجال يمكنها من ضرب العدو.
والسؤال بالتالي هو: هل يمكن أن يلعب نجاح “داعش” في ميدان المعركة أو بشن هجوم إرهابي رئيسي دوراً مشابهاً لهجوم التيت أو الهجوم الشرقي في فيتنام؟ وهل سيدفع -أول لا يؤجل على الأقل- انسحاباً أميركاً من المنطقة أم سيرفع الرهان؟ هنا يصبح تشبيه فيتنام أقل فائدة لأن الولايات المتحدة لم إلى فيتنام بعد أعوام من المغادرة للمساعدة في إنجاز عمل غير مكتمل.
يقول نموذجنا إن الولايات المتحدة لا تريد التدخل مباشرة، وأنها تقيم ميزان قوى استراتيجياً لإدارة الشرق الأوسط. لكننا نعرف أيضاً أن “داعش” قوي جداً وأن تركه طليقاً يمكن أن يشكل تهديداً كافياً لإجبار الولايات المتحدة على عمل ما هو أكثر مما تريد عمله.
لا تشكل حرب فيتنام بأي معنى مقارنة كاملة فيما يتعلق برد الولايات المتحدة على “داعش” وعلى طالبان. ففي أفغانستان والعراق على حد سواء، ثمة عدد أكبر بكثير من الفصائل في كل بلد، والتي تقاتل لتحقيق أهداف مختلفة. وفي فيتنام، كان هناك جيشان ضخمان عالقان في المعركة يتوافران على راعيين قويين يدعمان كل جانب. وحتى مع ذلك، وكما حدث في العام 1972 في فيتنام، فإن الانتشار الراهن للقوات الأميركية في هذين المسرحين ليس قوياً بشكل كاف لصنع فارق عسكري فاصل، ولا تتوافر الولايات المتحدة على النية ولا القدرة لإضافة نوع القوة العسكرية الذي يحدث الفارق. وتعد التصريحات من النوع الذي سرب من البيت الأبيض في الأسبوع الماضي جزءا من معركة العلاقات العامة. لكن مستقبل المصالح الأميركية يعتمد على قدرة الولايات المتحدة على الاعتماد على الذين يملكون القوة على الأرض.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية