يُعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أقوى زعيم تم انتخابه ديمقراطياً في تاريخ البلاد. وقد أدار تركيا منذ عام 2002 من خلال «حزب العدالة والتنمية» الذي ينتمي إليه، أولاً كرئيس للوزراء ثم كرئيس للبلاد منذ عام 2014. وبعد أن دبر في 22 أيار/ مايو ترقية حليفه المقرب بن علي يلدرم إلى منصب رئيس الوزراء ورئيس «حزب العدالة والتنمية»، بات أردوغان يتمتع بالمزيد من السلطة: فهو الآن رئيس الدولة، ورئيس الحكومة (بحكم الواقع)، وزعيم الحزب الحاكم. فإلى أين يريد أخذ تركيا؟
منذ عام 2002، ألغى أردوغان بشكل منهجي إرث الفكر الكمالي، وهو الأيديولوجية الثورية-العلمانية التي سادت في تركيا في القرن العشرين والتي سميت باسم مؤسس الدولة مصطفى كمال أتاتورك. وقد كانت ثورة أردوغان المضادة ديمقراطية “بالمعنى الضيق”. فعلى الرغم من أن منتقديه يلومونه لكونه استبدادياً، تمكن أردوغان من جذب دعم شعبي قوي، من خلال التأثير الذي أحدثته أربعة انتصارات انتخابية منذ عام 2002، لإحداث ثورة في النظام السياسي التركي.
وفي حين أنشأ أتاتورك جداراً فاصلاً إلى حد كبير بين الدين والحكومة وصنّف تركيا بحزم باعتبارها دولة غربية، أضفى أردوغان الطابع الإسلامي على نطاق واسع على سياسة البلاد ونظام التعليم فيها كما على سياستها الخارجية. وبالتالي، فإن ميل أردوغان لمشاهدة العالم من خلال عدسة مكافحة الفكر الكمالي قد دفع إلى تحول أنقرة في وقت لاحق نحو منطقة الشرق الأوسط، حيث أصبحت تركيا طرفاً في الحرب الأهلية السورية المدمرة. يُشار إلى أن تركيا تدعم اليوم الجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل «أحرار الشام» التي ترتبط بـ تنظيم «القاعدة»، في الصراع السوري، حتى ولو كان يصعب على المرء تصديق ذلك.
وعلى الصعيد الداخلي، فإن ثورة أردوغان المضادة، بعد أن جعل من الإسلام مركز السياسة التركية، تبدو سريالية ومعقدة وكئيبة. ففي أعقاب التغييرات التي طرأت على نظام التعليم العلماني في البلاد، يُجبر عدد متزايد من الطلاب على الدراسة في المدارس الثانوية الإسلامية. وفي الآونة الأخيرة، أُدخل حفيد الحاخام الأكبر لتركيا مدرسة ثانوية إسلامية، إلى جانب العديد من المسيحيين، في امتحانات شهادة الثانوية العامة التي تديرها الحكومة.
إن أسلمة تركيا، فضلاً عن تورط أنقرة في الحرب السورية الأهلية وعن الجوار السيئ، مثل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في البلد المجاور، كلها عوامل تعرض البلاد لمخاطر جسيمة. فوفقاً لتقرير صادر عن “معهد السياسة والاستراتيجية العالمية”، وهو مركز أبحاث مقره أنقرة، عبَر ما يزيد على 2000 مواطن تركي الحدود للقتال في صفوف «داعش». وفي الأشهر العشرة الماضية، شن التنظيم أربعة هجمات إرهابية في تركيا، مما أسفر عن مقتل أكثر من 150 مواطناً.
وعلى الرغم من أن تركيا، ستشهد بعد، للأسف، أسوأ تهديدات تنظيم «الدولة الإسلامية»، فأنا ألوم أتاتورك بشكل غير مباشر على تمكين أردوغان المدمر على جعل الإسلام نبراساً لجميع أوجه السياسة في تركيا. فقد كان أتاتورك ضابطاً في الجيش العثماني قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى. وبالتالي، بصفته نتاجاً للنظام العثماني، حرر تركيا وأضفى عليها بعد ذلك الطابع العلماني بالكامل. يُذكر أنه كان مواطناً عادياً من الطبقة المتوسطة من الذين تلقوا التعليم العلماني في المدارس الحكومية العثمانية. وعندما كان شاباً، عاش أتاتورك في الإمبراطورية التي كانت تشمل بالفعل عدداً هائلاً من القوانين والمحاكم والمؤسسات العلمانية، بما في ذلك البرلمان، كما كانت تميل إلى اعتبار نفسها جزءاً من نظام الدولة الأوروبية. ولذلك، لا يكمن تفرد أتاتورك في كونه أضفى الطابع العلماني على تركيا بل في انتهاجه المسار العثماني إلى أقصى حد ممكن. فقد غرس العلمانية في الدستور التركي وشدد بقوة على غربية تركيا.
يتعيّن على الثورات أن تصوّر الأنظمة السياسية التي أطاحت بها على أنها عديمة الفائدة تماماً من أجل أن تبرر نفسها، لذلك، صوّر أتاتورك في ثورته العثمانيين بشكل مختلف تماماً. فقد رسم أتاتورك والنخبة من الكماليين صورة للعثمانيين الذين يعتمدون المنهج الغربي كونهم متعصبين دينياً ومهووسين بالإسلام، الأمر الذي أدى إلى فشلهم فيما بعد.
ورسم الكماليون صورة تهكمية للعثمانيين تبين أن كافة جوانب الإمبراطورية كانت تتمحور حول الدين وحول الظلام المعادي للغرب، أي ما يقرب من نسخة تركية من السلفيين. أما الفكر الكمالي، كما قالوا، فكان يتمحور حول العلمانية التقدمية. فعلى مدى 80 عاماً، أصبحت تركيا إحدى الدول ذات الأغلبية المسلمة الأكثر علمانية والأكثر أيديولوجية؛ ومثل هذه الأفكار الخاطئة حول العثمانيين كانت تعلَّم لأجيال من التلاميذ والمواطنين، بمن فيهم أردوغان، فأصبحت جزءاً من شخصيتهم.
وتهدف الثورات المضادة إلى إعادة النظام السياسي إلى وضعه السابق، وهذا ما يقوم به أردوغان في تركيا. فالثورة المضادة التي يشنها تركز على جعل الإسلام محور السياسة التركية، وترى دور السياسة الخارجية للبلاد باعتبارها معادية للغرب بشكل أساسي. فأردوغان يعتقد أن هذه هي الطريقة التي سيعيد فيها النظام العثماني. وتكمن المفارقة هنا في أنه بينما يحاول إحياء الإمبراطورية العثمانية ما قبل أتاتورك، يحاول أردوغان في الواقع إحياء صورة العثمانيين التي علّمه إياها الكماليون.
يُذكر أن مجتمع العثمانيين كان مجتمعاً متطوراً. فقد كان العثمانيون مسلمين، ولكنهم لم يكونوا مهووسين بالإسلام في السياسة الخارجية أو الداخلية. فمنذ إنشائها، اعتبرت الإمبراطورية العثمانية نفسها كقوة أوروبية، وأضفت على نفسها الطابع الغربي إلى حد كبير لدرجة أنها بحلول القرن التاسع عشر وفّرت التعليم للمرأة، وأدارت المحاكم العلمانية، وعلمت طلابها، بمن فيهم أتاتورك، إبعاد الدين عن السياسة. أما في السياسة الخارجية، فدائماً ما أمل العثمانيون بأن يشكلوا قوة مسلمة وأوروبية، حتى بينما كانت قوتهم تضعف في القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن آخر خليفة عثماني نفاه أتاتورك، أي السلطان عبد المجيد الثاني، كان رساماً معروفاً برسمه للعري.
وإذا تمكن أردوغان من إدراك التراث العثماني الكامن وراء تصوير الفكر الكمالي الذي يحدد ملامح تفكيره، فلا يزال بإمكان تركيا أن تتمتع بفرصة الابتعاد عن سياسة الأسلمة المدمرة في الداخل وعن تهديد تنظيم «الدولة الإسلامية» القادم من سوريا.
سونر جاغايتاي
معهد واشنطن