نقلتنا هذه المقارنات المحلية إلى مقارنة الأوضاع الدولية وعلاقات دولنا بهذه الأوضاع. توقفنا برهة عند صفة أطلقها أحد الحاضرين على النظام الدولي الراهن، قال إنه نظام طابعه الإهمال، على عكس النظام الدولي الذي عاش في ظله جيل الآباء، وهو النظام الذي اتصف بالحنكة والحكمة والذكاء. كانت تفاصيله واضحة وكان مفهوماً. طرح خيارات وسمح للدول النامية، وبعضها حديث الاستقلال، بحرية أن تعمل وتقاوم وتقيم منظماتها وتجمعاتها الدولية، بشرط أن تحترم الحدود بين القوتين الأعظم، فلا تتجاوزها ولا تتجاهلها، وإن أمكن لها استغلالها والاستفادة منها.
النظام الدولي في ذلك الحين كان ثنائي القطبية، وباقي التفاصيل معروفة، ولا داعي لإعادة سردها، يكفينا منها الآن واقع أن القطبية الثنائية قامت على ادعاء أن أساسها إيديولوجي. الرأسمالية في جانب والشيوعية في الجانب الآخر. أهداف الطرفين واضحة وأهمها التوسع في النفوذ والتبعية باستخدام الإيديولوجيا. كل طرف يتوسع وأحياناً على حساب الطرف الآخر، إن أمكنه ذلك، ولكن من دون تهديد سلام وأمن واستقرار «النظام الدولي». كانت قضية الغرب الأساسية الدعوة لتبني الرأسمالية نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وقضية الجانب السوفييتى نشر الاشتراكية بمختلف أشكالها ومستوياتها، نظاماً اقتصادياً واجتماعياً. القضيتان واضحتان، كذلك كانت بنفس الوضوح قضايا دول وشعوب العالم النامي. كانت هناك قضايا حماية الاستقلال الوطني والتخفيف من التبعية الاقتصادية، وبناء الدولة الحديثة مستفيدة من بعض إنجازات الغرب والشرق، كانت هناك أيضاً قضية الاستيطان. قضايا كلها واضحة ومفهومة.
عادت، أو تعود، القطبية الثنائية وعادت أو تعود النزاعات حول الحدود في صراع دولي جديد. لا شىء في هذا النظام واضح المعالم تماماً، حتى سلوكيات أطراف الصراع يشوبها التخبط وتنضح بسوء التخطيط والتنفيذ. النتيجة نظام دولي تنقصه الكفاءة وتعيبه غلبة الواقعية، وأحياناً تكون مفرطة، ويعيبه غياب الإيديولوجيا، أو على الأقل، بعض القواعد الأخلاقية والتزام منظومة بعينها للقيم.
بصعوبة شديدة يمكن القول إن ما يجمع اليوم بين أمريكا وأوروبا هو نشر الديمقراطية الليبرالية، ونظام يعتمد حرية السوق، وأن ما يجمع بين روسيا والصين ودول أخرى، هو التصدي لمحاولات الغرب نشر الديمقراطية الليبرالية ورفض الاقتصاد الحر. المطروح من جانبها هو ديمقراطية واقتصادية موجهتان، أي خاضعتان لتدخل الدولة المباشر غالباً، وغير المباشر أحياناً.
في غياب قضايا الإيديولوجيا كجوهر صراعات القوة الدولية انعقدت قمة الدول الصناعية السبع في اليابان لا لشىء إلّا لتعلن أن العالم الغربي يبارك عملية صعود اليابان كقوة عسكرية لها شأن في الصراع الناشب حالياً للسيطرة على البحار والممرات المائية والبرية ذات القيمة الاستراتيجية والتجارية العالمية. عادت اليابان إلى ساحة صراعات القوة بعد تردد طويل. انتهى ترددها حين قررت الصين ترجمة قوتها الاقتصادية الجديدة في مجموعة سياسات تؤكد وجودها كقوة عظمى على طول طرق التجارة في البحار الآسيوية والباسيفيكية، والطرق المؤدية في النهاية إلى قلب الغرب في أوروبا.
غير مفهوم تماماً أو بالقدر الكافي ما وراء انسحاب الولايات المتحدة من مواقع لها في أوروبا وفي الشرق الأوسط في وقت تصعد فيه الصين وتتوسع بسرعة وتصميم.
غير خافٍ أنهم فى أمريكا مختلفون جوهرياً حول دورهم في العالم. ثم إنه لا جدال في أن الانعزاليين في أمريكا يكسبون أرضاً كل يوم.
غير خافٍ أيضاً أن في الصين كما في روسيا، من يطرح فكرة إقامة «نظام دولي بديل»، بمعنى نظام يتولى توجيهه وقيادته حلف غير عسكري بالضرورة من القوى الجديدة الصاعدة. الدافع وراء هذا التفكير ربما كان وقف ظاهرة السقوط المتسارع والمتنامي لقوى ناشئة. شاهدنا في الشهور الأخيرة دولاً سقطت لصالح الحلف الغربي، ولم يكن لدى «الحلف البديل» الوسائل أو الإمكانات اللازمة لوقف هذا السقوط. سقطت الأرجنتين ثم البرازيل والآن فنزويلا وبوليفيا مهددتان، وكوبا تقف متأرجحة بين فرص نمو أسرع بمباركة أمريكية، وبين استقرار واستمرار النظام الحاكم بإيديولوجية هجينة. هكذا نجحت الولايات المتحدة في إلحاق هزيمة مبكرة بحلم أعضاء القوى المناهضة للغرب، لكنها بهذا الإنجاز تكون قد أحيت لدى الصين والروس، إمكان إقامة نظام بديل.
أتصور أن أوباما بسياساته التي أثارت انتقادات عديدة، وبخاصة في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط قد تسبب في خلق وعي لدى روسيا والصين بضرورة الإسراع نحو دعم مصادر القوة والتضامن في مجموعة شنغهاي.
لا شك عندي في أن الغرب يمر بحالة ارتباك شديد وخلافات جوهرية حول سياسات الأمن والدفاع، وهذه في حد ذاتها فرصة ذهبية للصين وروسيا للإسراع بحشد مصادر قوتيهما استعداداً لاحتلال موقع القطب الثاني في نظام دولي جديد، كبديل لنظام يخضع لهيمنة غربية. وفي اعتقادي أن الدولتين لن تدعا فرصة انعقاد قمة العشرين تمر من دون أن يبذلا الجهد اللازم لوقف انضمام قوى مهمة كالهند وإيران للحلف الغربي، وتشجيع دول عربية مؤثرة للانضمام إلى مشروع الحلف البديل.
جميل مطر
صحيفة الخليج