لم يسحب بوتين مقاتلاته بالكامل في نهاية العام كما وعد، وإنما أعلن انسحاباً جزئياً، بعد المهلة المحددة بنحو شهرين، معيداً التوازن العسكري على الأرض عبر توجيه ضرباتٍ موجعة، ليس فقط لتنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وجبهة النصرة، وإنما تحديداً للمعارضة الممثلة بـ”الجيش السوري الحر”، وباقي الفصائل المسلحة. وقد حافظ سيد الكرملين على حق الأمرة في المعارك، وطائراته لا تتحرّك إلا بأوامر روسية، كي يبقى ممسكاً بزمام الأمور، ومتحكماً بوجهة العمليات وخدمتها للأهداف التي وضعها. وبالتالي، يبقى ممسكاً بقدرة قوات الأسد على الحركة. ولم يكن من شأن هذا المنحى إلا أن يلقى ارتياحاً لدى طهران ودمشق من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، وهي التي أحجمت عن تقديم أي دعم فعلي للمعارضة، وموقفها لم يتعدّ يوماً المطالبة الكلامية للأسد بالرحيل، وهذا فقط في بداية الأزمة. كما أن بوتين، وعبر وطأة الضغط العسكري، يحاول الاستثمار في السياسة، من أجل إعادة استئناف مفاوضات جنيف لإحراج المعارضة، وإجبارها على القبول بحلٍّ سياسي، لمرحلة انتقاليةٍ بمشاركة الأسد، خلافاً لما ينص عليه قرار مجلس الأمن 2254.
ولكن الروسي ثعلبٌ محنكٌ، يعرف أن القوة هي التي تفرض الوقائع على الأرض، فلم يقبل بوقف إطلاق النار، وحاول تفخيخ المعارضة عبر “تطعيمها” بمجموعةٍ معقودة الولاء لموسكو، وتحجيم وفد الهيئة العليا للتفاوض السورية، المدعوم من السعودية، على طاولة المفاوضات. وهو يعرف، في الوقت عينه، أن ما يريده هو ليس تماماً ما يريده الأسد و”ولي الفقيه” الوصي عليه، إلا أن ما يجمع بينهما هو تقاطع المصالح، تبعاً لأسباب الأزمة ومراحلها. وقد حاول النظام المكابرة بإيعازٍ من الملالي الذين لا يريدون التفاوض، وإنما يحلمون بسحق المعارضة، مطلقين العنان لمليشياتهم الإيرانية واللبنانية والعراقية… فلم تنجح المحاولة، وانفرط عقد جنيف قبل أن يبدأ.
أعاد بوتين رسم خططه، ممهداً الطريق أمام جيش النظام، لاستعادة مدينة تدمر من تنظيم
داعش الذي كان قد سيطر عليها، بعد الانسحاب المشبوه لكتائب الأسد منها، قبل نحو سنة. كان يدرك تماماً نيات “محور الممانعة”، واستعداده لإطلاق معركة استعادة مدينة حلب، محاولاً الاستفادة من تراجع المعارضة وفشل الخطة الروسية. ولأن السيطرة على حلب تعني السيطرة على الجغرافيا السورية، والسيطرة على ثاني أهم مدينة سورية، وبالتالي السيطرة على شمال سورية حتى الحدود مع تركيا، كان يريد، على العكس، أن يتمحور الحل السياسي التفاوضي حول حلب، وانطلاقاً منها. لذلك، كان يخطط لإعادة خلط الأوراق من أجل “ضرب عصفورين بحجر واحد”، عبر فتح معارك دير الزور والرقة، بهدف إضعاف طرفي الصراع، “محور الممانعة” من جهة، وتنظيمات “داعش” و”النصرة” من جهة أخرى، ما يساعد على وقف العمليات، أو على الأقل التخفيف منها في منطقة حلب. وهذا ما حصل عملياً، وأدى إلى تحييد بعض تنظيمات المعارضة التي تشارك في مفاوضات جنيف، ما سمح له بفرض هدنةٍ في حلب.
أمام هذا التكتيك الروسي المحكم، والذي كان منسقاً، على ما يبدو، مع الأميركيين، لم يعد في وسع قوات الأسد أن تستمر وتدخل في مواجهة مع الروس، خصوصاً وأنها بحاجة إلى غطاء موسكو الجوي. فيما حاول مقاتلو حزب الله وعناصر فيلق القدس الإيراني رفض الخطة الروسية، فانعكس الأمر ضياعاً في الميدان بين أطراف “الممانعة”، إذ بات على الأسد وكتائبه الالتزام بقرار الهدنة على الأرض. وكشفت المواجهة العسكرية التي وقعت بين مليشيا حزب الله ومجموعاتٍ من جيش النظام قرب حلب، خلال الأسبوع الماضي، عن أزمة ثقة بين الطرفين. ولعلّ التعليقات التي نشرها إعلاميون قريبون من النظام السوري، أمثال النائب في مجلس الشعب شريف شحادة الذي علق قائلاً: “إن القرار هو للبوط السوري، وحزب الله جاء لينصرنا لا ليحكمنا…”، جاءت لتكشف خفايا تورط حزب الله في سورية. لا شك أنّ الطرفين اضطرا أن يطويا على مضض صفحة الصدام على أكثر من 30 قتيلاً من كلا الطرفين. وأكثر من ذلك، يعتقد مقاتلو حزب الله أنّ مجموعاتٍ من الجيش السوري تقوم بتسهيل عملية اصطيادهم من المعارضة السورية، آخرها كان إطلاق صاروخ تاو على مجموعة من حزب الله، ذهب ضحيته أكثر من عشرة عناصر. وهي ليست المرة الأولى، بل تكرّرت خلال الأشهر الأخيرة مرات.
هل يدخل هذا الأمر ضمن ما خطط له بوتين وأراد حصوله؟ الأكيد أن معركة حلب تشكل حجر الشطرنج الأساس ضمن لعبة بوتين الأوسع والأشمل على رقعة الشرق الأوسط، وهي لعبة يريد أن يشرك فيها جميع اللاعبين الكبار، الإقليميين والدوليين، بدءاً من الولايات المتحدة، مروراً بأوروبا والسعودية وإيران، وحتى تركيا التي تسعى إلى إعادة ترميم علاقتها بالكرملين، من دون أن ننسى إسرائيل التي يحرص الماكر بوتين على صداقة نظيره بنيامين نتنياهو. أدرك بوتين، على الأرجح، أن لا حل عسكرياً، وهو بات مضطراً لتوظيف التوازن العسكري، من أجل فرض حل سياسي. باتت حلب (السنية) تلخص أحد أهم أوجه الصراع في المنطقة، أي الصدام السني الشيعي والفارسي العربي.