اعداد مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
يعتقد الكثير من المتابعين للشأن العراقي ان تكليف حيدر العبادي بمنصب رئيس الوزراء، بادرة أمل بالنسبة لبلد يمزقه الصراع الطائفي، فيه فرقاء السياسة لا يثقون ببعضهم بعضا، تجمعهم المصالح والمنافع، وتفرقهم المجالس والخطب، بينما تسيطر ايران على تفاعلات البلاد السياسية، وعلى نحو يضمن مصالحها الامنية والاستراتيجية ، ولو امعنا النظر لوجدنا ان العراق بعد عام 2003 تعرض لعملية تفكيك سمحت بتشكيل فراغات سياسية وأمنية، وفتحت الباب امام تدخلات اقليمية، يشكل البعد الطائفي واحداً من اهم متغيراتها، ويدلل عليها اتساع ظاهرة الميليشيات بنسختيها الشيعية والسنية، وتصاعد اعمال القتل والخطف والتهجير. وليس مفاجئاً انتشار حالة الفوضى التي تعيشها البلاد، فالجهود الحكومية العملية واللوجستية مع توظيف الامكانات المادية، جرى تسخيرها لتتمحور حول شيعية الدولة، واحقية طائفة بعينها لتتسيد المشهد السياسي، من منطلق الاغلبية العددية، وهو منطق يخرب اسس الدولة المدنية، التي تمثل كل مواطنيها، والقائمة على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
وهذا يشير إلى أمرين: اولهما أن الحكم في العراق سيكون في أزمة دائمة، وسيجعل الدولة في حالة صدام مع جزء من مجتمعها، عبر عنها المالكي مخاطباً المحتجين في المحافظات السنية، باتباع يزيد، مضيفاً “بيننا وبينكم بحر من الدم”. ثانيهما: ان التغلغل الايراني في العراق، قد بلغ اشده وهو ما ساعد طهران على التمدد شرق المتوسط، لتصل جنوباً الى البحرين، ثم الى اليمن. فالاصطفاف السني – الشيعي هذا انما يعبر عن صدع آخر تعيشه المنطقة، بين المملكة العربية السعودية وايران، وهو صراع جيواستراتيجي، حيث يتنافس الطرفان على السيادة في الخليج العربي وبلاد الشام.
لقد تمت أدلجة الارهاب ليكون رديفاً لمكون بعينه، بل ان حكومة المالكي اعلنت تحالفاً مع ميليشيات “عصائب اهل الحق”، الامر الذي انعكس على الاخيرة قوة ونفوذاً، لتشارك في انتخابات مجالس المحافظات وفي الانتخابات البرلمانية في نيسان/ ابريل 2014.
وبعبارة اخرى فان الميليشيات الشيعية قدر لها ان تتحالف مع الحكومة، وان تتحرك تحت غطائها، بل ان ينظر الى افعالها في اطار من الشرعية، وكثيراً ما يتم غض الطرف عن المجازر واعمال القتل التي ترتكبها، عاكسة منطقاً ونهجاً ايرانياً.
وتُظهر وثائق “هارموني” التابعة لمشروع “هارموني” غير السرية الخاصة بالحكومة العراقية والتي قام بتجميعها “مركز مكافحة الإرهاب في الكلية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت” الأعمال شبه العسكرية التي تقوم بها الميليشيات بأنها اسلوب من اساليب عملية بناء النفوذ الإيراني في العراق، وصيانة اهدافه المتعلقة بالأمن.
وعلى نطاق أوسع، تمثل الميليشيات أداة مرنة يمكن استخدامها لدعم جهود إيران الرامية إلى الحيلولة دون صعود القوميين والبعثيين السابقين إلى قمة السياسات العراقية والإبقاء على نفوذها على أي حكومة جديدة يقودها الشيعة. وخلال السنوات الماضية، لتمكن المالكي من اجتراح خطاب إعلامي ونهج حركي، فيه الكثير من الافعال الاستفزازية مع السنّة.
وبعد تطور الأحداث العسكرية والأمنية وسقوط نينوى في 9 حزيران/ يونيو2014 وضع الحرس الثوري الإيراني استراتيجية جديدة للعمل في العراق، بإعادة هيكلة القوات العسكرية العراقية، وتوسيع النفوذ الايراني على الصعيدين العسكري والسياسي في إطار شامل، تفادياً لهزائم اضافية على الهزائم التي لحقت بحلفائه من الاحزاب الشيعية في البلاد.
ميليشيات على غرار الباسيج
يبدو ان الاستراتيجيات الجديدة التي وضعها الجنرال قاسم سليماني، تتجه نحو بناء ميليشيات تكون على غرار ميليشيات “حزب الله” في لبنان، بحيث تعمل بشكل منظم وعلى درجة عالية من الحرفية والمهنية العسكرية، لتكون ظهيراً للقوات العسكرية والأمنية الحكومية، ويتم توزيعها على المحافظات، لتحل محل الجيش الحالي مستقبلاً.
ومن المرجح ان تشكيل هذه الميليشيات جاء استلهاماً لتجربة قوات التعبئة الإيرانية التي تسمى في إيران بقوات “الباسيج”، وهي قوات عسكرية شعبية تابعة للحرس الثوري الإيراني، تضم متطوعين إيرانيين شاركوا في القتال ابان الحرب الإيرانية ـ العراقية، وكان لها دور بارز في الثمانينيات من القرن الماضي في تلك الحرب. كما شاركت في قمع الكثير من الاحتجاجات الطلابية والقومية والعمالية في عموم إيران.
وما يحدث اليوم يعد لحظة مثالية وفرصة مواتية لن تفرط بها ايران، لتشكيل هذه الميليشيات، حيث الاحتقان الطائفي بلغ اقصاه، لدفع المتطوعين الشيعة للانخراط في هذه القوات شبه النظامية، دفاعاَ عن المذهب، ولهذا جرى تكليف اللواء حسين همداني أحد كبار قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، ليتولى مسؤولية الإشراف المؤقت على الملف العراقي ومتابعة التطورات العسكرية والأمنية والإشراف على سير عمل تشكيل المليشيات الشيعية، وتدريبها من أجل عدم خروج الأمور عن نطاق السيطرة الإيرانية في بغداد.
محافظة ديالى ..الاهمية الجيوبولوتيكية والاستراتيجية
تعد محافظة ديالى واحدة من أهم المحافظات العراقية، من حيث موقعها الاستراتيجي القريب من العاصمة بغداد، ولها حدود مشتركة مع ايران بطول (240) كيلومتراً، ونفط خانة نزولاً الى مندلي وقزانية.وهي من اكثر المناطق الساخنة التي شهدت على مدار السنوات الماضية عمليات طائفية وتصفيات مذهبية، راح ضحيتها الالاف من المواطنين الابرياء، كما انها احدى محافظات الحراك العراقي السني، التي شهدت حركة احتجاجات واسعة، تزايدت ذروتها مع مجزرة الحويجة في 23 نيسان/ ابريل 2013 .
وتخصر الجغرافية في هذه المحافظة، زاد من اهميتها بالنسبة لإيران كونها تمثل النقطة الاقرب ايرانياً الى بغداد، وهي محافظة سنية سكانها خليط من العرب والكرد والتركمان، وتضم قرابة مليون ومائتي ألف سني عربي من سكانها البالغ عددهم مليوناً وخمسمائة وخمسين ألف نسمة حسب الإحصائيات الرسمية وسجلات البطاقة التموينية في وزارة التجارة.
وبالنظر لما تقدم، فان محافظة ديالى تشهد تغيرًا في تركيبتها الديموغرافية، من خلال تهجير السكان من مذهب بعينه، واحلال سكان من مذهب آخر، فقد أدت عمليات التهجير الواسعة في ديالى الى اختلال التركيبة السكانية في المحافظة التي شهدت الموجات الأكبر من عمليات التهجير بين عامي 2006-2007.
نشير هنا الى ما اكدته رئيسة لجنة المهجّرين والمرحّلين النيابية لقاء وردي (نائب عن القائمة العراقية) يوم 14 تموز/ يوليو 2013 حول قيام ميليشيات مسلحة بعمليات تهجير منظمة وممنهجة لأهل السنّة في بعض مناطق ديالى، تساندهم في ذلك الأجهزة الأمنية قوات الجيش الحكومي .
وتحتل محافظة ديالى المرتبة الثانية بعد محافظة الموصل في عدد الضباط والجنود والمراتب العسكرية في الجيش العراقي السابق، ويقدر عدد العسكريين من منتسبي الجيش والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية في العهد السابق بأكثر من نصف مليون شخص.
عمدت حكومة نوري المالكي لإضفاء الصبغة الشيعية على محافظة ديالى، الى نقل آلاف العسكريين من المحافظات الجنوبية، ووزعتهم على قيادة عمليات دجلة وأفواج الفرقة الخامسة ومقرها في بعقوبة ايضاً، ونشر الالاف من عناصر الأجهزة الأمنية والجنائية في أقضية المحافظة ونواحيها، بينما يحتل أكثر من عشرين مسؤولاً شيعياً رئاسة الدوائر الحكومية والعسكرية والأمنية في المحافظة، علماً ان الشيعة في ديالى لا يشكلون غير (15%) من سكانها.
وتفيد معلومات استخباراتية ان ثمة خطة ايرانية؛ تضطلع بتنفيذها الميليشيات الشيعية، مثل “عصائب اهل الحق” وميليشيا “بدر”، وكتائب حزب الله والمجاميع الخاصة، لاستئصال ابناء المكون السني في المحافظة وتهجيرهم، تحت غطاء (داعش) و”مكافحة الارهاب”. ومن جهة اخرى فان ايران تسعى الى تحويل ديالى لتكون محافظة شيعية موالية لها، تحكم من خلالها السيطرة على بغداد وحزامها الشمالي. وتجر القبائل العربية الى قتال الميليشيات الشيعية المرتبطة بوزير النقل هادي العامري ومثنى التميمي وعدي الخدران.
ومن هنا تشهد المحافظة فوضى امنية وعمليات قتل وتهجير، وليس الهجوم على مسجد سني في ديالى اخيراً، جاء من قبيل المصادفة، أو مجرد عملية عشوائية لمليشيا ليس لها قائد، بل هي نتاج مشروع ايراني مخطط له سلفًا، يصار من خلاله استغلال المناخ الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة تنظيم (داعش) الإرهابي والقضاء عليه، للقيام بحملة منظمة تقودها الأحزاب والمليشيات الشيعية والقوات العسكرية والأجهزة الأمنية المرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة تستهدف تغيير طبيعته المحافظة السنية العربية وتغليب الأقلية الشيعية فيها وفق مخطط مرسوم تبدو الأصابع الإيرانية واضحة فيه.
اهم القيادات الميليشياوية في ديالى
وأصبح نشاط هذه المليشيات علنياً بعد اجتياح “داعش” الموصل في 10 حزيران يونيو/الماضي، ونظم بعضها استعراضات عسكرية، وانتشرت في مناطق متعددة إلى جانب الجيش كقوات شعبية مساندة. وتنتشر مليشيا “عصائب أهل الحق”، التي يتزعمها الشيخ قيس الخزعلي ووُجهت إليها أصابع الاتهام في حادث مسجد مصعب بن عمير، في ديالى وصلاح الدين، إلى جانب مليشيا “بدر” التي يتزعمها وزير النقل هادي العامري.
ويعتقد أن مليشيا “كتائب حزب الله” تنتشر في حدود بغداد الغربية بالإضافة الى أجزاء من الأنبار. ويتم التعامل مع المليشيات في الإعلام الحكومي تحت اسم “الحشد الشعبي” لدمجها مع آلاف المتطوعين الذين انضموا إلى الجيش، استجابة لفتوى الجهاد الكفائي التي أعلنها المرجع الأعلى علي السيستاني.
تبدو الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران، جزءاً عضوياً من التحالف الشيعي، والقوة الضاربة الرئيسة في حرب السلطة على المدن المنتفضة، والآمر الناهي ميدانياً والأكثر نفوذاً في جميع مؤسسات الدولة، والأكثر انفلاتاً وتملصاً من المساءلة والرقابة. وقد لا تفلح المطالب السنية الداعية الى حل الميليشيات، وإدراجها على قائمة التنظيمات الإرهابية الى جانب تنظيم “داعش”، في تحقيق مرادها، بل ان بعض قوى التحالف الشيعي، اتهمت “الدولة الاسلامية” بارتكاب المجزرة وتبرئة ساحة ميليشياتها من الجريمة.
وقال نائب شيعي عن قائمة دولة القانون التي يرأسها المالكي أن تلك الميليشيات لها الفضل في سد الفراغ على الحدود الجنوبية لبغداد، عندما اختفت قوات الأمن مضيفا ” تضم بعض الميليشيات مقاتلين أكفاء جدا… لديهم الدافع وبعضهم مستعد للموت. وحين يكون التفكير بهذه الطريقة سيكون بالإمكان مواجهة الدولة الإسلامية.”
وكان الحراك الشعبي في ديالى قد أعلن ان حرباً طائفية تقودها ميليشيات وأحزاب طائفية تجول وتصول بحرية في ديالى، مدعومة بقيادات أمنية طائفية توفر الغطاء لتحرك الميليشيات التي ترتكب جرائم ضد المدنيين.
ويشغل اغلب قادة الميليشيات التي تنشط في محافظة ديالى، مناصب حكومية، ومنهم صادق جعفرالحسيني: عضو مجلس شورى ميليشيا “بدر”، ومسؤول اللجنة الامنية في محافظة ديالى، وله ارتباطات مع فيلق القدس في ديالى ومن عناصر الاطلاعات الايرانية.
وكذلك عدي الخدران: قائممقام الخالص، وهو قيادي في ميليشيا “بدر”، يتولى تصفية رجال القبائل العربية السنية. ورغم صدور العشرات من مذكرات إلقاء القبض على الخدران لثبوت ارتكابه جرائم قتل وانتهاك إعراض، الا ان المالكي كان يصدر دائما أوامره الى مجلس القضاء الأعلى والمحاكم العراقية بعدم تنفيذها، ويقود الخدران حالياً مجموعة خاصة من اشقائه واقربائه التي تمارس سياسات القتل ضد أبناء قضاء الخالص من السنة العرب.
والمقدم هوبي التميمي: مدير مركز شرطة الوحدة، والمسؤول عن اعدام اكثر من خمسين سجينا في مركز شرطة الوحدة وسط مدينة بعقوبة، والذي سبق ان عمل ضابط امن في مديرية امن ديالى منذ عام 1990 وحتى الى الاحتلال الامريكي عام 2003.
اما شاكر التميمي الملقب (ابو حوراء التميمي): فهو مدير ناحية العبارة في محافظة ديالى، وهو قيادي في ميليشيا “بدر” في قاطع المقدادية، والمسؤول عن قتل وتهجير ابناء السنة في هذا القاطع، وكان في السابق يعمل منتسباً في مديرية الامن العامة الشعبة الثالثة/ قسم متابعة الاكراد.
ومنذ سقوط الموصل أكبر مدن الشمال وانهيار القوات العراقية ازداد ظهور ميليشيا “عصائب أهل الحق” و”كتائب حزب الله” المدعومتين من إيران، اللتين تقاتلان مع القوات الحكومية حول محافظة الأنبار الغربية، وفي محيط بغداد منذ الشتاء. ويؤكد أحمد الكناني الناطق باسم العصائب أن مقاتليه ينشطون في محافظة ديالى بالشرق، وفي مناطق حول سامراء وعلى المشارف الغربية والجنوبية لبغداد.
ويعد مهدي السعدي احد قادة العصائب الميدانيين في ديالى، ويتلقى بين الحين والاخر تدريبات عسكرية في ايران، واسهم في احداث الحرب الطائفية عام 2006 في ديالى، ومتهم بارتكاب عمليات قتل وتهجير. وكذلك مجيد غيدان العتبي: شقيق الفريق علي غيدان، واحد عناصر ميليشيا “عصائب اهل الحق”، الذي يتحرك في قاطع بلدروز. وكان المالكي قد منح عبد الصمد الزركوشي،رتبة عميد ومسؤول عما يسمى بـ “الحشد الشعبي” في منطقة السعدية. وكان الزركوشي، وهو من التبعية الايرانية، جرى تسفيره في الثمانينيات من القرن الماضي الى ايران، وعاد للعراق بعد الاحتلال الامريكي.
ازدواجية التعاطي مع الميليشيات
عندما تجاهلت حكومة المالكي استعراضات عسكرية لميليشيات شيعية، وبمختلف صنوف الأسلحة المنهوبة من الجيش العراقي، في قلب بغداد فانها تكشف ان تعاملها مع الميليشيات غير القانونية كان بمنظارين؛ أحدهما شيعي مقبول أو يمكن غضّ النظر عنه، والآخر سنّي غير مرغوب به وتجب محاربته لأنه خارج سياقات الدولة وجزء من الارهاب المنفلت الذي يضرب البلاد.
ما تقدم يضع الدولة العراقية بسلطتها الحالية أمام تساؤلات عديدة حول دورها في محاربة الميليشيات والقضاء عليها طيلة السنوات الماضية، وسبب فشلها أن كان ضعفاً، أو محاباة إذ يُنظر لهذه الميليشيات بوصفها قاعدة شعبية تحمي الحكومة الشيعية.
وفي كلتا الحالتين فإن الدولة تثبت انها وصلت بضعفها الى مستويات شديدة، مما يجعلها غير مهيأة ولا قادرة على إدارة السياسة بأزماتها المتنوعة في العراق، والتي يجب أن يدار سياسياً وأمنياً ووطنياً، كون السلطة الحالية تستند الى الخارج، لاعتبارات المذهب والطائفة، وتنظر الى شركاء الوطن نظرة ريبة وعدائية، معادلة كهذه لن تحل مشاكل البلاد المستعصية.الطائفية البغضية تفرق بين ابناء الوطن الواحد، وقد يصل الامر الى انهيار العيش المشترك، لتوجه الطاقات نحو الحرب الأهلية، فما بين “داعش” او الميليشيات المسلحة لا فرق.