بدا الأمر غريبًا للغاية عندما قام دونالد ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، بترديد ما سبق من قوله حول منع «المسلمين» من دخول الولايات المتحدة في أعقاب الحادث الإرهابي الذي جرى بمدينة أورلاندو بولاية فلوريدا. ولم ينفع كثيرًا ما تحفظ به على الحديث بأن ذلك بشكل «مؤقت» لحين فحص الموضوع وفرز ما فيه من أبعاد، ولما كان الموضوع هو «المسلمين» البالغ عددهم مليارًا و600 مليون نسمة، فلا بد أن فترة البحث سوف تكون أكثر بكثير مما هو مؤقت. وعلى أي حال، فإن النية العنصرية سرعان ما ظهرت عندما طالب بسجل خاص للأميركيين المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة. هيلاري كلينتون لم تكن أفضل حالاً بكثير، فرغم أنها أدانت أقوال ترامب، فإن الموضوع بأكمله دخل إلى مغارة الخلاف الأميركي الذائع حول المادة الثانية من الدستور التي تقول بحق الأميركيين في حمل السلاح، فجرى عبور الحادث مباشرة إلى صميم المعركة الانتخابية الرئاسية والاستقطاب الحاد بصدد قضايا كثيرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. والملاحظ أن عددًا من الجمهوريين المرموقين قاموا أيضًا باستنكار أقوال ترامب، ولكن لا أحد من الجمهوريين أو الديمقراطيين، أو النخبة السياسية والفكرية الأميركية حاولت أن تنظر إلى ما هو أبعد من كلاسيكيات الخلاف الأميركي، سواء حول حمل السلاح منعًا أو إباحة في الامتلاك، أو المسلمين منعًا أو إباحة في الحضور.
ما فات على الجميع أن واقعة أورلاندو كان لها من الخصائص والسمات ما يختلف عن عمليات القتل الشائعة في الولايات المتحدة التي تتراوح بين قيام طلبة المدارس بإطلاق النيران على زملائهم، أو قيام بعضهم الآخر بقتل أميركيين من أصل أفريقي. في كلا الحالتين فإن الأمر دخل في عداد الجرائم، حتى ولو شابها بعض من العنصرية. فالواقعة جرت في مناخ أميركي وعالمي محدد كان فيه الحرب ضد «داعش» وغيره من الجماعات الإرهابية هي المعركة الرئيسية في عالم اليوم، ولم تفلح مشاغبات الصين في بحر الصين الجنوبي في جذب مركز الصراع الدولي من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وفي الحقيقة فإنه بدا أن معركة الشرق الأوسط قد بدأت في الدخول في مرحلة حرجة مع دخول القوات العراقية إلى الفلوجة، ودخول قوات سورية إلى حافة الرقة. وأكثر من ذلك أن سلسلة من الوقائع الإرهابية الكبرى في باريس (13 نوفمبر «تشرين الثاني» 2015) بلغ عدد الضحايا فيها 130 قتيلاً، والجرحى 368، ثم بروكسل (22 مارس «آذار» 2016) سقط فيها 35 قتيلاً و300 جريح. وفي الولايات المتحدة نفسها توالت عمليات إرهابية بدأت بما قام به الأخوان زوخار وتاميريان تزارنييف في مدينة بوسطن (15 أبريل «نيسان» 2013) خلال ماراثون رياضي قتل فيه 3، أما الجرحى فكانوا 264. وبعدها في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2015 قام سيد رضوان فاروق (28 سنة) وتشفين مالك (27 سنة) بإطلاق النيران على حفل في مدينة سان براندينو بولاية كاليفورنيا أدى إلى مقتل 14 وجرح 24. وعندما جاءت واقعة أورلاندو فإن عمر متين (29 سنة) قام بفتح النار على جمهور من المثليين في ملهى ليلي فأردى 49 قتيلاً، وجرح 53 فتى وفتاة.
ما جمع هؤلاء الإرهابيين جميعًا أنهم أولاً من شباب العشرينات، وثانيًا أنهم يحملون الجنسية الأميركية أو أيًا من جنسيات الدول الأوروبية مثل فرنسا وبلجيكا، وثالثًا أنهم من مواليد هذه الدول على الأغلب وممن تلقوا تعليمهم فيها وتعرضوا لكل مؤثرات الثقافة والحضارة الأوروبية، ورابعًا أن جميعهم كانوا حريصين على إعلان الولاء لـ«داعش»، إما عن طريق الإنترنت أو شفاهة أو من خلال اتصال تليفوني كما فعل عمر متين في أورلاندو، وخامسًا أنهم رغم كل ذلك فإنه لم يثبت وجود علاقات تنظيمية بين هؤلاء وتنظيم داعش. كل ذلك يذكرنا بأن «خلية هامبورغ» التي قادت عمليات الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على نيويورك وواشنطن قضت معظم حياتها وتعليمها في مدن وعواصم أوروبية.
هذه المعلومات كلها تنفي تمامًا نظرية «الأسباب الجذرية» (Root Causes) التي ترجع الإرهاب في الدول الإسلامية إلى نوعين من الظروف التي تدفع الشباب إلى التطرف والعنف، وهي: الفقر والظروف الاجتماعية القاسية، والاستبداد الذي يمنع المشاركة السياسية فيندفع الشباب ناحية الإرهاب. وبغض النظر عن أنه لا يوجد دليل واحد على أن الفقر هو محرك الإرهاب في العالم الإسلامي والعربي، فإن الإرهابيين الأميركيين والأوروبيين لا ينطبق عليهم ذلك الوصف، وأكثر من ذلك أنهم من الناحية المادية والشخصية حصلوا على فرص كبيرة في المجتمعات التي قدموا إليها، وبالتأكيد فإنهم عاشوا في مناخ مفرط في الحريات السياسية والاجتماعية. للأسف الشديد فإن أحدًا في الولايات المتحدة لم يطرح الأسئلة الجوهرية عن الأسباب التي تجعل شريحة من الشباب المسلم يتحولون إلى إرهابيين على هذه الصورة المروعة.
الحقيقة الأولى التي لا يمكن تجاهلها بالنسبة للشباب المسلم في الولايات المتحدة وأوروبا هي أن الإرهابيين من بينهم يمثلون شريحة صغيرة للغاية، ولكنها مميتة، من ملايين الشباب الذين يندمجون في الحياة الاجتماعية والسياسية في الغرب. والحقيقة الثانية أن السلوك السياسي والاجتماعي للغالبية الساحقة من هؤلاء الشباب لا يختلف في كثير أو قليل عن بقية الشباب الأوروبي والأميركي من حيث التوجه السياسي الذي يتراوح بين الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية وقليل من المحافظة الاجتماعية. والحقيقة الثالثة أن ما يدفع هؤلاء إلى الإرهاب هو نفس الدوافع التي تدفع أقرانهم في الشرق الأوسط، أو أمثالهم في الغرب، وهو الآيديولوجية الإرهابية، التي قد تكون عنصرية كما هو الحال في الفاشية والنازية والمؤمنين بتفوق الجنس الأبيض، كما أنها قد تكون دينية كما هو الحال مع «متهوسين» مسيحيين ويهود وبوذيين ومسلمين يستمدون من آيديولوجياتهم هوسًا يكفي للقتل. والحقيقة الرابعة أن الإرهابيين من كل الأنواع على الأرجح يعيشون في عزلة من نوع أو آخر عن البيئة التي يعيشون وسطها نتيجة أمرين: الشعور الهائل بالتفوق على الآخرين نتيجة الادعاء بتفويض إلهي أو من القدر لإعادة تنظيم العالم على طريق يختلف عن ذلك الذي يسير فيه، والإيمان بأن الحياة لا تساوي الكثير إذا لم تكن ثمنًا لتحقيق هذه الغايات. وفي ذلك لم يختلف الأخوان تزارنييف أو سيد فاروق أو تشفين مالك أو عمر متين عن تيموثي ماكفي وتيري نيكولاس اللذين قاما بتفجير مبنى فيدرالي في 19 أبريل 1995 أدى إلى مقتل 168 وجرح 680.
تجاهل هذه الحقائق من قبل الساسة والإعلاميين في الولايات المتحدة قد تكون مريحة، لأنها تركز على الطبيعة الأجنبية للإرهاب، وتلصقه مع أقلية صغيرة في الغرب حدث أنها مسلمة، فينتهي الأمر كله إلى فشل آيديولوجي وأخلاقي في التعامل مع ظاهرة سوف تظل معنا لفترة غير قصيرة مقبلة، لا تعرف فارقًا بين دول أو أمم وعابرة للقارات، ومذنبة كالذنب في غلوها وتطرفها.
د. عبد المنعم سعيد
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
Save