ربما يمكن القول إن تهديدات الأمن غير التقليدي التي باتت تواجهها الدول الأوروبية في الفترة الحالية، بفعل تفاقم تداعيات الصراعات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية، وارتفاع طلبات اللجوء إلى مستويات غير مسبوقة تفوق قدرة استيعابها، بموازاة وصول العمليات الإرهابية إلى بعض العواصم الأوروبية مثل باريس وبروكسل، إضافةً إلى تعدد مظاهر الفشل في سياسات الأمن الاتحادية وانعكاساتها على المنظومة الأوروبية، كل ذلك مثل عوامل أساسية ساهمت في التصويت البريطاني لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من حرص أغلب ردود الفعل الأوروبية والدولية على تقليص تأثير التداعيات المحتملة على الأمن الأوروبي والعالمي جراء تلك الخطوة، فإن تلك المواقف راهنت على أن تعدد الالتزامات الأمنية البريطانية تجاه أوروبا والقائمة على ارتباطات في الدائرة الأوروبية والدولية، سيكبح عواقب الانفصال المثيرة للقلق. لكن واقعيًّا لم تُختبر بعد تلك الرؤية في ظل اتساع نطاق التباينات البريطانية- الأوروبية، والتي يُتوقع استمرارها مستقبلا في إطار التحولات المحتملة للخريطة السياسية البريطانية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
انخراط متصاعد
يبدو أن بريطانيا سوف تتجه خلال الفترة القادمة إلى رفع مستوى انخراطها في أزمات منطقة الشرق الأوسط، وربما تسعى إلى تعزيز الشراكة الأمنية والاقتصادية مع دول المنطقة بهدف تعويض التداعيات الاقتصادية التي سوف يفرضها الخروج من الاتحاد الأوروبي والتعامل بفاعلية أكبر مع التهديدات التي تنتجها أزمات المنطقة على أمنها ومصالحها. لكن السياسة البريطانية ستكون، على الأرجح، أكثر توافقًا مع السياسة الأمريكية بالأساس تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهى سياسة كانت ظاهرة في إطار عضويتها في الاتحاد، لكنها ستكون أكثر وضوحًا بعد الخروج منه، خاصة أن بريطانيا كانت ملتزمة في السابق بالاتجاهات العامة للسياسة الأوروبية.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفي أنه ستكون هناك آثار سلبية على الاتحاد الأوروبي جراء تلك السياسات التي من المتوقع أن تتبناها بريطانيا، وفقًا لتقديرات سياسية أوروبية، لكن حدة الخلافات في الرؤى داخل الاتحاد ربما تتقلص بعد خروج بريطانيا، وبالتالي ربما يكون هناك مزيد من التنسيق الأوروبي، لا سيما بين الدول الرئيسية في الاتحاد على غرار فرنسا وألمانيا التي لا تبدي اهتمامًا متزايدًا بالتداعيات التي تنتجها الصراعات الإقليمية في المنطقة فحسب، بل إنها تنخرط بشكل مباشر في بعض تلك الصراعات على غرار التدخل الفرنسي في شمال مالي والمشاركة في الحرب ضد الإرهاب، ويبدو أن تلك الدول سوف تتجه أيضًا إلى رفع مستوى تعاونها مع العديد من القوى الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة على المستويين الأمني والاقتصادي.
كما أن بعض الدول الأوروبية ربما تتجه نحو ممارسة دور أمني أكبر على مستوى الاتحاد الأوروبي، وذلك لملء الفراغ الناتج عن خروج بريطانيا، وهو ما أكده مفوض الشئون العسكرية في البرلمان الألماني هانز بيتر بارتل، الذي قال أن “على ألمانيا أن تضطلع بمسئولية عسكرية أكبر في الوقت الحالي”. وربما يفسر ذلك اتجاه ألمانيا إلى زيادة المخصصات العسكرية للجيش الألماني قبل أيام قليلة من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تعاون مع الناتو
سارعت بريطانيا وحلفاؤها الدوليون وحلف الناتو إلى التأكيد على أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يكون له تأثير على علاقة بريطانيا ودورها في الحلف، وقد بدا أن ثمة اهتمامًا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا بهذه القضية نظرًا للثقل الذي تحظى به بريطانيا داخل الحلف، وهو ما انعكس في تأكيد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، بعد لقاءه مع أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ، على أن “الخروج البريطاني عديم الأثر الأمني على العلاقة بالحلف”.
ويُنظر إلى بريطانيا على أنها من الأركان الرئيسية في الحلف، فهى تملك قوة ردع نووي، وجيشًا قادرًا على الانتشار في الخارج، كما أنها حليف وثيق للولايات المتحدة الأمريكية، وقد وعدت بريطانيا بالإبقاء على التزاماتها تجاه الاتحاد الأوروبي ذات الصلة مع الحلف، وهى محاولة تهدف، على الأرجح، إلى تقليص مخاوف بعض الأطراف من التأثيرات السلبية المحتملة للخروج البريطاني من الاتحاد.
دور رئيسي في مكافحة الإرهاب
أبرمت الدول الأوروبية اتفاقيات متعددة لمواجهة الإرهاب، على غرار اتفاقية مجلس أوروبا بشأن مكافحة الإرهاب التي تعود إلى عام 2005، إلا أن ظهور تنظيم “داعش” وتنفيذ عمليات إرهابية داخل بعض العواصم الأوروبية دفع تلك الدول إلى توقيع ملحق إضافي عام 2015 ركز على توفير الأدوات السياسية والقانونية للتعاطي مع مستجدات الإرهاب حول العالم وتداعياته على أوروبا، وهو الإطار الذي يبدو أن بريطانيا سوف تحافظ على التزاماتها التعاقدية معه في مرحلة ما بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
وبالطبع، فإن ذلك ربما يمكن تفسيره في إطار تصاعد مشكلة العائدين من مناطق الصراع إلى الدول الأوروبية، حيث قدر الاتحاد الأوروبي أن عدد مواطنيه الذين انضموا إلى صفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق يتراوح ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف شخص، عاد منهم 30% إلى بلادهم، بشكل بات يفرض تهديدات مباشرة لأمن تلك الدول، ومن هذا المنطلق وضعت الخطة على أساس أنه من المحتمل تزايد العمليات الإرهابية في أوروبا.
ومن دون شك، فإن ذلك يضع عقبات عديدة أمام احتمال انسحاب بريطانيا من التزاماتها الأمنية تجاه الاتحاد، لا سيما أن تلك العملية سوف تخضع، على الأرجح، لمفاوضات طويلة يعتقد أنها ستفضي إلى انسحاب شكلي وليس انسحابًا وظيفيًّا على مستوى مجالات الأمن. كما أن الدور الأمني لبريطانيا لن يتأثر، وفقًا لرؤية اتجاهات عديدة، بحكم الاتفاقيات العابرة للاتحاد، بشكل ربما يؤدي في النهاية إلى تحول بريطانيا، تدريجيًا، إلى شريك أمني بارز لأوروبا على غرار الولايات المتحدة الأمريكية.