تدفع أعمال العنف الأخيرة التي تتصاعد حدتها في بغداد والمدن العراقية باتجاه منعطف خطير يتمثّل بالعودة مجدداً إلى الحرب الطائفية التي بلغت أوجها عامَي 2007 و2008، والتي أعقبت تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير/شباط 2006، وما نتج عنها من صراع دموي استمر لسنوات عدة. وبينما تتضارب المصالح السياسية بين الكتل والأحزاب المتصارعة على النفوذ في البلاد، تسير التحرّكات نحو أهداف مرسومة بدقة، لها أثرها بزرع روح الانتقام بين أبناء الشعب، من خلال استهداف مناطق ذات نفوذ شيعي ومراقد دينيّة كما حصل في تفجير الكرّادة، وما تبعه من استهداف مرقد السيد محمد في محافظة صلاح الدين.
ومثلما كان العنوان الأول لأحداث 2007 و2008 هو تنظيم “القاعدة” وجرائمه، فإن تنظيم “داعش” اليوم يدفع في خطابه باتجاه تصوير اعتداءاته على أنها “انتقاماً” لأهل السنة، بينما تجزم الأرقام بأن أكبر عدد من ضحايا إرهاب “داعش” هم السنة أنفسهم وبنسب لا يمكن مقارنتها بعدد الضحايا من المذاهب والديانات الأخرى. حقيقة لا تمنع أطرافاً طائفية عراقية من اعتماد سلوك وخطاب طائفيين يدعيان تمثيل الشيعة، ويعمدان إلى وضع إرهاب “داعش” في خانة “الفعل السنّي”، وهو ما يهدف في النهاية، بحسب كثيرين، إلى تبرير جرائم طائفية مضادة تغزو العراق وبلغت في الأيام الماضية مستويات غير مسبوقة شبيهة بجرائم “فرق الموت” في سنتَي الحرب الأهلية. أكثر من ذلك، توحي تصرفات مليشيات طائفية عديدة في تحوير الحقائق مثلما حصل غداة اعتداء الكرادة قبل أسبوع، بأن وراء هذا السلوك أهدافاً مبيّتة تندرج في خانة الدفع نحو الاقتتال المذهبي في سبيل حصد نتائج سياسية طائفية وإحداث تغيير ديمغرافي طائفي وتغيير طبيعة العراق مذهبياً. هكذا، تبدو أحداث العراق اليوم أقرب إلى المخطط الذي تشترك فيه أطراف عديدة، من “داعش” إلى بعض المليشيات الطائفية المنضوية في “قوات الحشد الشعبي” ذات الطابع الشيعي.
ويرى مراقبون أنّ انتهاء معارك الفلوجة ومحافظة صلاح الدين وديالى فرض واقعاً جديداً تمثّل بالحدّ من جبهات القتال ضدّ تنظيم “الدولة الإسلاميّة” (داعش) في البلاد، الأمر الذي لا يصب لصالح مليشيا “الحشد الشعبي” التي ترى أنّ وجودها مرهون بوجود التنظيم، والذي كان سبباً بتشكيل “الحشد”، ما يحتّم عليها إيجاد جبهات بديلة تبرر لها البقاء. ويحذّر هؤلاء من مخطط لدى بعض فصائل “الحشد” يتمثّل بإرباك المشهد في محاولة لاستلام إدارة الملف الأمني في بغداد وبعض المناطق، ما يعني عودة فرق الموت من جديد بلباس “الحشد”، الأمر الذي يتطلّب وعياً حكومياً ومساعي للحد من تلك المخططات التي قد تدخل البلاد بمنعطف يصعب الخروج منه.
”
الخلاف بين فصائل الحشد الشعبي حول الزعامة دفع كتلة الصدر للكشف عن بعض تفاصيل تفجير الكرادة والجهات التي تقف ورائه
“
ولم تغب عن أذهان العراقيين، حتى اليوم، مشاهد الحرب الطائفية التي مرّوا بها، وجرائم القتل، والتعذيب، والخطف، والسجون السريّة، والاعتقالات العشوائية، وتفجير المساجد، والتي راح ضحيّتها الآلاف من أبناء الشعب العراقي، بين قتيل ومفقود مجهول المصير حتى الآن، حتى عاد شبح الحرب ليهدّدهم من جديد.
ويكشف الخلاف بين بعض فصائل مليشيا “الحشد” جزءاً من مخطط فصائل يرى كثيرون أنها تدفع باتجاه الحرب الطائفية، لتحقيق مصالح خاصة. في هذا السياق، يقول مصدر قريب من أحد فصائل “الحشد” لـ”العربي الجديد”، إنّ “هناك خلافاً عميقا تجذّر بين فصائل الحشد، خصوصاً بين سرايا السلام (التابعة للتيار الصدري) وفصائل بدر، والعصائب، وحزب الله، وأبو الفضل العباس، وجميعها موالية لنائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي”، مبيّنا أنّ “الخلاف هو على زعامة الأخير للحشد”.
ويوضح أنّ “الخلاف دفع كتلة الصدر للكشف عن بعض تفاصيل تفجير الكرادة والجهات التي تقف وراءه”، مشيراً إلى أنّها “كشفت عن تنفيذ الهجوم من قبل فصيل أبو الفضل العباس تحديداً، وأنّه (الفصيل) أدخل السيارة المفخخة عبر الحواجز الأمنية”. ويلفت إلى أنّ “كتلة الصدر تملك أدلّة تدين بعض الفصائل المسلّحة وجهات سياسية تدعمها، بالوقوف خلف تفجير الكرادة والهجوم على مرقد السيد محمد في محافظة صلاح الدين”، مؤكّداً أنّ “كتلة الصدر لا تريد كشف الأدلّة للقضاء العراقي خوفاً من التسويف”.
من جهته، يكشف رئيس لجنة الأمن البرلمانية، القيادي الصدري حاكم الزاملي، عن أنّ “المواد المتفجرة المستخدمة في استهداف مرقد السيد محمد هي نفس المواد المستخدمة في استهداف الكرادة”. وقال الزاملي، في بيان صحافي، إنّ “عدم تحديد المسؤولية الأمنية في مسك المنطقة وعدم محاسبة المقصّرين في الخروق المتكررة هي أساس استمرار هذه التفجيرات”، مؤكداً أنّ “إجراءات الدفاع المدني في الحادثتين غير فعّالة”.
كما طالب محافظ بغداد القيادي الصدري، علي التميمي، بـ”تدخّل دولي وخبراء تحقيق دوليين لكشف ملابسات تفجير الكرادة”. وأكّد التميمي، في بيان صحافي، على “ضرورة الاستعانة بالخبرات الدولية لمعرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء التفجير”، مطالباً، رئيس الوزراء حيدر العبادي، بـ”الإسراع بإشراك خبراء من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في التحقيق، لكشف ملابسات التفجير”. ودعا التميمي، الاتحاد الأوروبي، ومنظمة العدل الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، إلى إرسال خبرائهم إلى العراق، محذراً من “خطورة تكرار التفجيرات المماثلة، في بقية أحياء العاصمة العراقية، إذا لم تتغير الخطط الأمنية”.
”
حذّر العبادي من محاولات جرّ البلاد نحو العنف الطائفي، بعد تفجير الكرّادة، داعياً إلى تعزيز الوحدة الداخلية
“
من جانبه، حذّر رئيس الحكومة حيدر العبادي من “محاولات جرّ البلاد نحو العنف الطائفي”، داعياً الشعب العراقي والقوى السياسية إلى “تفويت الفرصة على أعداء العراق، من خلال تعزيز الوحدة الداخلية ورصّ الصفوف”. وقال العبادي، في بيان صحافي، إنّ “الاعتداء الإجرامي الذي تعرض له مرقد السيد محمد في مدينة بلد في محافظة صلاح الدين يشكّل حلقة في سلسلة الاستهداف الإرهابي الذي يتعرض له العراق، ويعدّ استكمالاً لجريمة العصر التي ارتكبها الإرهابيون في منطقة الكرادة”. وأكّد أنّ “الاعتداء يهدف إلى خلق حالة من الاضطراب الداخلي والأمني وتوفير مادة لبعض المؤيدين له في الداخل، خصوصاً في الشارع السياسي، للاستمرار في مخطط استهداف الدولة ومؤسساتها في إطار مخطط لا يخفى على أحد”. وحذّر من “محاولات زرع الفتنة الطائفية بين أبناء العراق من خلال العودة إلى استهداف المراقد الدينية والزائرين الأبرياء من المواطنين”.
وشدّد العبادي على أن “المواجهة الأمنية والعسكرية مع داعش يجب أن تترافق مع مواجهة سياسية تضع حدّاً للمواقف التي تصدر عن بعض الأطراف، والتي تسمح لداعش والداعمين له بالتسلل، مستغلين مواقف البعض التي لا تساعد سوى على تشجيع الإرهاب وإضعاف المؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية”. ووصف المعركة السياسية بأنها “أكثر تعقيداً من العسكرية، نظراً للجهود التي تبذلها بعض الأطراف المتضررة من عملية الإصلاح التي تعتبر الوجه الآخر للمعركة العسكرية”.
ويرى الخبير السياسي عبد الفتاح رمضان أنّ “فتوى المرجعية التي شُكّل على أساسها الحشد الشعبي ربطت وجوده بوجود داعش، وأنّه سيُحَلّ حال الانتهاء من داعش، الأمر الذي علّق بقاء الحشد على بقاء التنظيم”. ويقول رمضان، خلال حديثه لـ”العربي الجديد”، إنّ “أعمال العنف والتفجيرات، خصوصاً في المناطق ذات الغالبية الشيعية، والمراقد الدينية يشير إلى وجود داعش، الأمر الذي دفع بتلك المليشيات إلى التحرّك نحو تلك الأهداف على قاعدة أن وجود التنظيم واستمرار خطره، يعني الحاجة لوجود الحشد الشعبي”، محذّراً من “خطورة عدم التنبه لتلك التحركات التي ستعيد البلاد إلى مربع العنف الطائفي من جديد”.